قضايا وآراء

مستقبل العملات المشفرة

1300x600
تمثل العملات المشفرة (Cryptocurrency) نقودا رقمية يتم إصدارها من خلال برامج حاسوبية اعتمادا على تقنيات التشفير، حيث بنيت على تقنية سلسلة الكتل (Blockchain). وما زالت هذه العملات محل اهتمام الدول والمؤسسات المالية والأفراد في ظل عالم يسيطر عليه الدولار بالقوة الجبرية، وتتصارع فيه مصالح الدول الكبار لا سيما الولايات المتحدة الأمريكية والصين.

والصراع في ميدان العملات المشفرة لم يقتصر على العلاقات الدولية، بل إنه امتد بصورة ملحوظة داخل الدول ذاتها، حتى شنت السلطات الصينية منذ أيام حربا شعواء ضد العملات المشفرة من خلال فرض حظر شامل على جميع معاملاتها وعمليات التعدين لاستخراجها. وقد تعهدت بذلك عشر جهات مجتمعة، منها البنك المركزي وجهات منظمة للشؤون والأوراق المالية والنقد الأجنبي.
الخطوة الصينية تأتي ضمن حملة عالمية مشهودة ضد العملات الخاصة المشفرة، حيث تخشى الحكومات من آسيا إلى الولايات المتحدة من تقلب العملات الرقمية الخاصة، وزيادة المخاطر النظامية والجرائم المالية، وتحقيق الضرر بالمستثمرين، لا سيما في ظل عجزها عن السيطرة والرقابة عليها

وقد صرح البنك المركزي الصيني بأن الإجراءات تهدف لمزيد من الوقاية والتخلص من مخاطر تداول العملات الافتراضية، مضيفا أن المعاملات المالية والاقتصادية المتعلقة بها غير قانونية وأنها تهدد بشدة مدخرات المواطنين، فيما قال تقرير لموقع "ساوث تشاينا مورننغ بوست" (South China Morning Post) إن هذه الخطوة ستضاعف جهود ثاني أكبر اقتصاد في العالم للقضاء على المخاطر المخفية في نظامه المالي، ومواصلة تعزيز الحملة الطموحة للحفاظ على الطاقة وخفض الانبعاثات.

وهذه الخطوة الصينية تأتي ضمن حملة عالمية مشهودة ضد العملات الخاصة المشفرة، حيث تخشى الحكومات من آسيا إلى الولايات المتحدة من تقلب العملات الرقمية الخاصة، وزيادة المخاطر النظامية والجرائم المالية، وتحقيق الضرر بالمستثمرين، لا سيما في ظل عجزها عن السيطرة والرقابة عليها، وهو ما يؤثر سلبا على النظام النقدي والمالي.

وفي هذا الاتجاه تقترب الصين من إصدار اليوان الرقمي السيادي الذي وصل إلى مرحلة متقدمة من التجريب، ولعل هذا من أسباب حربها على العملات الرقمية الخاصة باعتبارها تشكّل تهديدا له، وحتى تتمكن من التحكم في الرقابة على حركة المال الداخلية والخارجية. وهذا التوجه الصيني يفتح المجال للبنوك المركزية في جميع أنحاء العالم إلى التفكير في إصدار عملاتها الرقمية الخاصة بها، خاصة وأنه بالفعل يدرس كل من مجلس الاحتياطي الفيدرالي والبنك المركزي الأوروبي وبنك اليابان المضي قدما في الإصدارات الرقمية من عملاتهم الوطنية.
خلال الأزمات المستقبلية يمكن للمودعين أن يروا العملات الرقمية بمثابة الملاذ الآمن، مما سيؤدي إلى زيادة نزوح الأموال خارج البنوك التجارية والمزيد من الضغط على السيولة

وقد أشار تقرير صدر حديثا عن بنك التسويات الدولية إلى أنه خلال الأزمات المستقبلية يمكن للمودعين أن يروا العملات الرقمية بمثابة الملاذ الآمن، مما سيؤدي إلى زيادة نزوح الأموال خارج البنوك التجارية والمزيد من الضغط على السيولة. وكذلك من الممكن أن يبدأ المستثمرون في ضخ المزيد من رؤوس أموالهم في العملات الرقمية وضخ كميات أقل في الأصول الأخرى منخفضة المخاطر، مثل سندات الخزانة وصناديق أسواق المال، مما قد يؤدي إلى ارتفاع العوائد في أسواق المال.

وكل هذا يبرز الدور المهم والمستقبلي للعملات المشفرة، فرغم اتجاه الدول إلى محاربة العملات الرقمية الخاصة فإن هذا الأمر ليس سهلا، لا سيما وأن آلية التعامل بهذه العملات يجعل من الصعوبة بمكان تتبعها ومراقبتها، ولن تقل فاعليتها إلا إذا ركزت الدول في إصدار عملات رقمية سيادية خاصة بها تتسم بالمصداقية والثقة، وتعزز دورها كوسيط للتبادل ومعيار للقيم وحفظ للثروة وتسوية الديون والالتزامات؛ بعيدا عن تحويلها لسلعة من خلال المضاربات، بل والأهم كذلك هو ربط هذه العملات بالذهب بما يحقق لها الثقة والاستقرار النسبي.
العملات المشفرة واقع لا يمكن إنكاره ومستقبل لا يمكن إهماله، وفي ظل تحرك الدول لإصدار عملات رقمية سيادية لها، فإن الأمر يحتاج جهدا وإرادة من السلطات في الدول الإسلامية لميلاد دينار رقمي إسلامي يمكنها من التبادل التجاري فيما بينها بعيدا عن سيطرة الدولار

إن العملات المشفرة واقع لا يمكن إنكاره ومستقبل لا يمكن إهماله، وفي ظل تحرك الدول لإصدار عملات رقمية سيادية لها، فإن الأمر يحتاج جهدا وإرادة من السلطات في الدول الإسلامية لميلاد دينار رقمي إسلامي يمكنها من التبادل التجاري فيما بينها بعيدا عن سيطرة الدولار، وفي الوقت نفسه العمل على إصدار عملات رقمية سيادية محلية.

وتبقي بعد ذلك مراعاة الضوابط الشرعية الحاكمة للعملات المشفرة في ظل حرمة العملات المشفرة الخاصة القائمة على الغرر الفاحش، لا سيما البيتكوين وأخواتها، حيث لا تُعرف الجهة المصدرة والضامنة لها، فضلا عن افتقادها القبول العام، وتحولها إلى مصدر للإيراد ووسيلة للمضاربات وغسل الأموال، وصعوبة اعتبارها مستودعاً للقيمة، ومعياراً للمدفوعات الآجلة، وهو ما لا يتفق مع القواعد والمقاصد الاقتصادية الإسلامية التي جعلت من العملة أداة للاتجار بها لا فيها، وأوجبت مراعاة قواعد التعامل الشرعي في تداولها بالتماثل والتقابض ولو حكمياً عند اتحاد الجنس، والتقابض ولو حكمياً دون التماثل عند اختلاف الجنس.

twitter.com/drdawabaع