الأزمة اللبنانية سياسياً ومعيشياً تعيد سوريا إلى الواجهة كبلد رغم ظروفه الخاصة يمكن أن يساعد الآخرين، لبنان تحديداً، ولو من قبيل أن يكون معْبراً لمساعدات أو وقود وطاقة تُستجلب من بلدان أخرى، وهما الأردن ومصر في حالتنا هذه.
القصة تمتد أيضاً إلى ماذا يفيد سوريا أن تلعب هذا الدور الذي قبلته الولايات المتحدة ووفّرت له الاستثناءات المطلوبة لقانون «قيصر» الذي يعاقب كل من يتعامل مع سوريا مباشرةً أو غير ذلك. الهدف الأميركي واضح ومباشر ويتعلق بسد أبواب التعاون المحتمل بين إيران ولبنان في مجال استيراد النفط والمازوت، بتنسيق بين «حزب الله» وطهران، وبعيداً عن الدولة اللبنانية التي لم يتقدم أحد للحصول على تصريح أو إذن لاستيراد النفط الإيراني وفقاً لأحد وزراء حكومة تصريف الأعمال.
فالبيت الأبيض الحريص على معاقبة إيران ومن يتعامل معها، كـ«حزب الله» اللبناني، حريص أيضاً على ألا يحقق الحزب أي مكسب سياسي أو دعائي في الداخل اللبناني بوصفه هو الذي خفّف قليلاً من معاناة اللبنانيين حيث لا كهرباء ولا بنزين ولا دواء ولا مخابز تعمل ولا دورة حياة معتادة، وبوصفه القوة السياسية التي استطاعت أن تتحدى العقوبات الأميركية من أجل المصلحة العامة. ونظراً إلى المصادفة الزمنية بين التحرك الأميركي في مجال استثناء لبنان من عقوبات قانون «قيصر» وبين تصريحات حسن نصر الله الأمين العام لـ«حزب الله» اللبناني الخاصة باستيراد نفط إيراني رغم أعباء ذلك السياسية والقانونية على البلد ككل، تشدد دعاية الحزب على أن هذا التزامن ليس مصادفة، وأن رد الفعل الأميركي دليل على قوة موقف الحزب، والمهم أن الداخل اللبناني سوف يتجه إلى قدر من الانفراج المعيشي.
مثل هذا الجدل يطرح بدوره السؤال الأهم حول انعكاسات هذا التطور على جهود تشكيل حكومة الرئيس المكلف نجيب ميقاتي، والتي تبدو متعثرة قصداً لتمرير رسائل متعددة تقيّد حركة الحكومة إنْ تشكّلت لاحقاً. وأهم هذه الرسائل أن العلاقة مع سوريا لا مفر منها، وأن سياسة النأي بالنفس عن أزمة البلد الجار، والتي طُبّقت أول مرة في ظل حكومة كان يرأسها نجيب ميقاتي قبل عقد كامل، لم تعد مناسبة لمجمل التطورات التي يمر بها الإقليم من جانب، لا سيما نتائج ودلالات الانسحاب الأميركي من أفغانستان، ويمر بها لبنان ذاته ممثلة في الأزمة المعيشية الخانقة من جانب آخر. لكن يبقى أيضاً أن تطورات العلاقة المستقبلية بين لبنان وسوريا ستظل محكومة بقرار أميركي له طابع استثنائي يتعلق بأزمة الطاقة في لبنان وليس أي شيء آخر، وهو ما يضع الأمر برمّته في سياق مُحدد وجزئي رغم ما ستحققه دمشق من مكاسب معنوية بالأساس.
على الصعيد السوري نلاحظ أمرين؛ الأول يبدو في التركيز على الأمور القانونية الخاصة بتفعيل مذكرة تفاهم لإنشاء الخط العربي لنقل الغاز عام 2000 والتي انضم إليها الأردن في العام التالي، وأمور فنية متعلقة بإعداد البنية الأساسية التي يمكنها أن تحوّل الفكرة إلى واقع، كخطوط أنابيب نقل الغاز، لا سيما الأجزاء من الخط العربي التي توقفت عن العمل منذ عقد كامل ويحتاج تشغيلها إلى الكثير من المسح والصيانة وتجديد بعض الأجزاء، وكذلك فحص شبكات الكهرباء المؤهلة لنقل التيار بين ثلاث شبكات على الأقل وهي الأردنية والسورية واللبنانية، وكلا الأمرين سوف يتطلب بعض الوقت وقدراً كبيراً من التنسيق الفني بين خبراء الدول الأربع. أما التمويل فهو شبه جاهز من البنك الدولي بدعم أميركي، شريطة التوصل إلى خطة فنية متكاملة وعقود واضحة بين الدول الأربع، مُحملة بجوانب استثمارية وأخرى تتعلق بأمن خطوط نقل الغاز تحديداً.
الأمر الثاني على الصعيد السوري الرسمي وهو الترحيب بفتح ثغرة في جدار العلاقة مع لبنان مدعومةً بتعاون مع دولتين عربيتين، مصر والأردن، الأولى توفر الغاز والثانية توفر الكهرباء، ما يجعل التعاون له طابع جماعي رباعي غاب عن دمشق عقداً كاملاً. ولكنه أيضاً تعاون في مجال مُحدد يصعب تجاوزه إلا بشروط تبدو بعيدة المنال في اللحظة الزمنية الراهنة؛ أهمها أن تكون هناك عملية سياسية بإشراف أممي تحقق قدراً من التقدم لإنهاء الأزمة السورية سلمياً، وعندها يكون لسوريا سمت جديد غير الذي هو قائم الآن، أهم خصائصه أن تكون سوريا الجديدة المتصالحة مع نفسها لكل مواطنيها عرباً وأكراداً، وأن تمتد السيادة الفعلية إلى كل شبر من الأرض السورية، وأن يتحقق انسحاب القوى الأجنبية لا سيما الأميركية والتركية من الشمال السوري، إضافة إلى المرتزقة وجماعات الإسلام السياسي العنيفة، وأن تخف قبضة إيران على الشأن السوري.
هذه الشروط تواجَه بقناعة سورية أن التغيير الشامل في نظام الحكم ليس مطروحاً لدى الرئيس بشار ونخبته، فقد حدث صمود وانتصار في ظل تركيبة الحكم الحالية، وبالتالي فليس هناك سبب يدفع إلى قبول مبدأ تغيير هيكلية الحكم القائمة و«المنتصرة». أما ما يتعلق بخروج القوى الأجنبية فليس مهماً في اللحظة الجارية، وسوف يحدث ولو بعد حين. ورغم ما تحمله هذه القناعة من قبول ضمني بكل سلبياتها وتجاهل تأثير عنصر الزمن الذي يشكّل بدوره مصالح كبرى للمستفيدين من هذا الوضع غير الطبيعي للدولة السورية، فإن القناعة العامة بالانتصار تبدو راسخة لدى الرئيس بشار تحت شعار انتصار قوى الممانعة.
وكانت ثلاث دول عربية يهمها أن تعود سوريا إلى النظام العربي قد تحدثت مع الجانب الروسي في مناسبات مختلفة بشأن إقناع الرئيس الأسد بأن يتجاوب بجدية مع العملية السياسية الأممية، حتى يمكن للدول العربية أن تبادر بخطوات لدعم عودتها بالإجماع إلى الجامعة العربية من جانب، وأن تسهم في عملية إعادة الإعمار لما دمّرته الحرب من جانب آخر.
والراجح، حسب مصادر مصرية وعربية، أن موسكو لم تجد المرونة الكافية لدى دمشق على هذا الطرح العربي، بل الأكثر من ذلك - حسب المصادر الروسية - أن دمشق لمحت إلى أن أي ضغوط من روسيا أو من غيرها سوف تدفعها إلى الميل بدرجة وكثافة أكبر تجاه طهران، والمحصلة ستكون خَصماً من المصالح الروسية. ولما كانت موسكو حريصة على استمرار مكاسبها السياسية والاستراتيجية التي حققتها منذ تدخلها العسكري نوفمبر (تشرين الثاني) 2015، فإنها لا تجد أي مبرر للضغط لإقناع دمشق بتغيير مسارها السياسي. والنتيجة أن الوضع السوري عربياً سيظل على حاله، والثغرة المحدودة التي تحققت في جدار العلاقة مع لبنان والأردن ومصر ستظل محكومة بالاستثناء الأميركي، إلى أن تتغير بعض المعادلات الأساسية في الإقليم من جانب، وفي الداخل السوري من جانب آخر. وهما أمران مؤجلان بعض الوقت.
نقلا عن "الشرق الأوسط"