في زحمة خطاب التحريض والشماتة الذي تابعناه إثر انقلاب قيس سعيّد على الدستور في تونس، استوقفني بيان ينطوي على قدر من الأهمية يتعلق بما جرى.
أفتح قوسا كي أشير إلى مصطلح "الإخونجية" الذي ستجده سائدا في مثل هذه المناسبات (مناسبة الاستهداف والشماتة)؛ في أوساط بينها جبال من التناقضات الفكرية والسياسية، إذ شاع استخدامه في أوساط تنظيم الدولة، وفي نقيضهم من ذات المرجعية الفكرية، أعني السلفية الجامية والمدخلية. ويستخدمه أيضا أبواق الأنظمة، وكذا يساريون وعلمانيون ومذهبيون وطائفيون وقوميون، وقد تجده عند آخرين من ألوان أخرى أيضا.
كل هذا الاستهداف، بجانب الشيطنة الإعلامية اليومية، لم يغيّر في حقيقة أن هذا التيار (الإخواني) ما يزال الأكثر حضورا دون منازع في شتى الدول العربية والإسلامية، وهذا تحديدا ما يصيب مرضى متلازمة "الإسلام السياسي" بالهستيريا.
البيان الذي أشرنا إليه في فاتحة المقال، كان لـ"حركة الاشتراكيين الثوريين" في مصر. بيان هاجم مواقف اليساريين والليبراليين في مصر من قرارات قيس سعيّد، الأمر الذي ينسحب بالضرورة على مواقف نظرائهم في الدول العربية الأخرى، بجانب الألوان الأخرى التي أشرنا إليها آنفا.
قالت الحركة في بيانها إن مواقفهم كانت: "مدفوعةٌ بالحماس للتخلّص من حزب النهضة الإسلامي؛ ليس بالنضال الجماهيري الذي يتحدّى أولئك القابعين في السلطة، بمن فيهم قيس سعيّد، والطبقة المستفيدة من السياسات الاقتصادية التي يعاني منها التونسيون، ولكن من خلال الإجهاز على آخر ما تبقّى من المكتسبات الديمقراطية للثورة التونسية".
دعك من عبارة "القابعين في السلطة"، لأن "النهضة" لم تأخذ شيئا ذا قيمة منها، وكانت بوصلتها الحفاظ على الثورة والديمقراطية، ولو بتنازلات؛ رفضنا بعضها. ولا تنسَ عمليات التعطيل اليومية التي كانت تديرها "الثورة المضادة"، بتواطؤ من سعيّد، وهدفها معروف للجميع.
أضف إلى ذلك بؤس الوضع الاقتصادي قبل "كورونا"، وتردّيه بعده.. دعك من ذلك كله، وتوقف فقط عند روحية البيان، التي تمثّل إدانة لمواقف أكثر اليساريين والليبراليين مما جرى، ولكلٍّ منهم سيرته في الانحياز للسلطة حين يكون الإسلاميون هم الهدف، ويكفي أن تتابع انحيازهم الأعمى لبشار، ثم إدانتهم لكل "ربيع العرب" لأجل عيونه، كي تدرك حقيقة الانتهازية والأحقاد الأيديولوجية التي تعشّش في عقولهم وتنهش ضمائرهم.
بقية البيان مهمة، إذا تذكّر هؤلاء بتجربة طازجة في مصر.
يقول: "مشكلة هذه الجدالات أنها من أجل رغبتها في التخلص من الإسلاميين في البرلمان، لا مانع لديها من العودة إلى سلطة مطلقة في يد الرئيس، وغلق باب الديمقراطية من الأساس، مع افتراض أن هذه الإجراءات الاستثنائية لقيس سعيّد ستكون الأخيرة من نوعها، ومن بعدها سيُفرش الطريق بالورود للقوى العلمانية!".
وأضاف: "كانت هذه الفكرة سائدة أيضا في مصر قبل وبعد انقلاب يوليو 2013.. أن تسمح القوى المدنية العلمانية بانتهاك الديمقراطية من خلال انقلاب عليها، في انتظار سراب الديمقراطية والتنوير من جعبة الديكتاتور! ما حدث معلومٌ للجميع، بدأ النظام بالإخوان فقط كبداية لحملات قمع غير مسبوقة من أجل إخلاء الساحة من أيِّ معارضة تُذكر. وهذه تجربةٌ نأمل ألا تتكرّر في تونس".
نذكّر للضرورة بأن التعميم خاطئ، والاستثناء موجود، وإن يكن محدودا، لا سيما أن الحركة صاحبة البيان جزء من اليسار، كما أن قوىً تونسية من ذات اللون، كانت لها مواقف مشرّفة.
ما ينبغي قوله تعليقا على البيان أيضا هو أن القوى إياها لم تؤيد الانقلاب في مصر لأنها كانت تؤمن أن هناك ديمقراطية وعلمانية قادمة، بل فعلت ذلك وهي تعي تماما طبيعة المسار التالي، لا سيما أنه مسار لا يحتاج إلى ذكاء وقدرات في التحليل كي يدركه المشتغلون في مضمار السياسة.
لقد فعلوا ذلك لأنهم يعتبرون الدكتاتورية أفضل بكثير من تعددية تمنح الإسلاميين حصة معتبرة، فضلا عن أن تمنحهم الغالبية، بل إن هذا هو جوهر خطابهم، حتى لو خلع الإسلاميون الكثير من قناعاتهم، أو ما شاع منها، وقبلوا حتى بصيغة أردوغان في ما يتعلق بالمنظومة الدينية والأخلاقية في المجتمع. وهنا نتذكّر لونا معروفا أحب أن أسميه "الليبروجامية"، أي بعض ليبرالية الخليج، والذين انحازوا لـ"ولي الأمر" ضد الإسلاميين، ولم يستثنوا "النهضة" الأقرب لطروحات أردوغان، مع العلم أن مطاردة الأخير تتم في خطابهم ليل نهار، وبلا توقف.
إنه الحقد الأيديولوجي، والحسد الأعمى الذي يتلبّس هؤلاء القوم، والذي يدفعهم للتحالف مع أبشع أنواع الدكتاتورية ضد الإسلاميين، مع العلم أنهم ليسوا متوافقين، أيضا، ولو تقدم تيار لحسده الآخرون. أما الأسوأ بين هؤلاء، فهم من تحرّكهم دوافع طائفية أو مذهبية في الجوهر، وإن حملوا أفكارا أخرى في المظهر.
لقد فضح "ربيع العرب" وتداعياته كثيرين من كل الألوان، لكن بعض الألوان، كانت فضيحتها من العيار الثقيل جدا، ومهما توسّلت من المبررات، فلن تستر عوراتها أبدا.
الأهم أن مسيرة الشعوب نحو الحرية والتحرر لن تتوقف عند نقطة واحدة، وهي ستعاود المحاولة، لكنها لن تعطي ثقتها لمن تحالفوا مع الدكتاتورية، ولن تسامحهم؛ لا على جرائمهم، ولا على تبريرهم للإجرام بحقها، مع أن أكثرهم آفلون قبل ذلك، وسيصبحون أكثر أفولا بعده.