هناك 04 أولويات يبدو أن التجربة التونسية هي بصدد تغييرها بالنسبة لأداء النظام السياسي في منطقتنا، وعلينا استخلاص الدروس منها:
أولا: أولوية الاقتصادي والاجتماعي على السياسي
بيَّنت هذه التجربة الفتية أنه لا مجال لإعطاء الأولوية لشكل النظام السياسي على محتواه، أي أن انتخاب هيئات مركزية ومحلية (رئاسة، برلمان، بلديات…) وإقامتها لن يزيد عن كونه تغييرا في شكل الحكم لا في جوهره بالنسبة لغالبية المواطنين. وما دام هذا التغيير، وإن تَم بشفافية، لم يؤثر على الواقع الاقتصادي والاجتماعي للناس فإنه سيُصبح بلا معنى بعد حين. وهو ما تمت ملاحظته في هذه التجربة بجلاء حيث دخل البرلمان مثلا في متاهة نقاشات وصراعات لا أول ولا آخر لها (ومنها المفتعلة) أخذت كل المشهد على حساب تناول القضايا ذات الأولوية التي تهم الناس. ومنه أصبح من الأهمية بمكان على أي تجربة سياسية لاحقة أن تجعل من المشروع الاقتصادي والاجتماعي أولوية أولوياتها على حساب النقاشات الهامشية أو ذات الطبيعة الأيديولوجية أو الشخصية أحيانا. ولعل هذا التوجه وحده هو الذي سيمكّن البرلمان في أي بلد من اكتساب الشرعية ومن تبرير وجدوه، ودونه سيكون مصيره الفشل الذريع إن آجلا أو عاجلا.
ثانيا: أولوية النظر للحرية في نطاق العدل
لقد تبين أن تمكين الناس من التعبير عن آرائهم عبر الانتخابات، وحتى اختيارهم لممثليهم اختيارا حرا، سيبقى شكليا إذا لم يكن لهذا تأثير على إقامة العدل في المجتمع. بمعنى أن قيمة الحرية إذا لم يتم النظر لها في نطاق العدل، ستبقى منقوصة وستستفيد مها أقليات ظالمة اقتصاديا واجتماعيا فيما يعرف بـ الليبراليين والليبراليين الجدد. بل إن هؤلاء ستخدمهم كل الخدمة تلك الحرية السياسية التي تترك الفرقاء الحزبيين يتشاجرون داخل البرلمان ويتركون لهم السوق والمؤسسات الاقتصادية ليفعلوا بها ما شاؤوا. وهو ما وقع بالفعل في تونس، حيث إن الانتخابات الحرة لم تمنع زيادة انتشار الفساد وتَغوُّل كبار الليبراليين.
ثالثا: أولوية الوحدة الوطنية على الصراع حول السلطة
لقد بينت هذه التجربة أن الانقسام الداخلي والصراع حول السلطة هو الباب الكبير الذي تدخل منه القوى الأجنبية للتأثير في المسار الوطني… وهو ما بدا اليوم جليا في شكل صراع دولي حول تونس لا يضم فقط أطرافا عربية وإسلامية بل أطرافا دولية بات همها الأول كيف تخدم مصالحها… وليس ثمة من إمكانية لإغلاق هذا الباب من تبني مبدأ أولوية الوحدة الوطنية على أولوية الصراع على السلطة مهما كانت الخلافات القائمة بين أبناء البلد الواحد.
رابعا: أولوية بلورة فكر سياسي ملائم
ـ بيَّنت التجربة التونسية خلال العشر سنوات الماضية أنه لا يوجد أنموذج سياسي يمكن تقليده أو اعتماده ولو كان بعنوان الديمقراطية. هناك اليوم ديمقراطيات وأنظمة سياسية متعددة في العالم، وليست هناك ديمقراطية واحدة. بل إن التجارب المختلفة أبرزت أنه ليس هناك استقرار حتى في التجربة الديمقراطية الواحدة سواء تعلق الأمر بدول عظمى كالولايات المتحدة الأمريكية (عجز الآليات الديمقراطية)، أو دول وسطى كتركيا (تغيير النظام إلى رئاسي من خلال البرلمان) أو دول صغرى كتونس (البحث عن بديل للنظام البرلماني). بل حتى على صعيد النظرية السياسية في العالم لم يعد هناك إجماع بشأن طبيعة وجدوى النظام الديمقراطي. (تراجع فوكوياما عن أطروحته نهاية التاريخ، النظرية السياسية الرابعة لروسيا، الاشتراكية الروحية للصين…الخ). وبالنتيجة لم يبق على نخبة مجتمعاتنا سوى التفكير بعمق في أسس ومبادئ نظريتها السياسية وما يصلح لبلدها وما لا يصلح وتلك مهمة ليست باليسيرة اليوم وغدا…
(الشروق الجزائرية)