أحد المنادين بوحدة سوريا الطبيعية، وربما يكون الأب الروحي
لهذا المشروع.
حكم عليه بالإعدام ونفذ الحكم في أقل من 24 ساعة بعد صفقة
بين السلطات في بيروت ودمشق. وتعد محاكمته، بحسب مؤرخين، إحدى مهازل القضاء، حيث غابت
العدالة تماما.
اتفق معه واختلف معه الكثيرون، لكنه كان مفكرا ومناضلا وصاحب
مشروع يستنهض الأمة.
ترك إرثا فكريا ثريا، وأصبح الأكثر تأثيرا في عديد من التيارات
الوطنية بعد تأسيسه الحزب السوري القومي الاجتماعي.
تلقى أنطون سعادة، المولود عام 1904 في بلدة الشوير في جبل
لبنان، علومه الأولى في مدرسة الفرير في القاهرة، لكنه اضطر للعودة إلى لبنان بعد وفاة
والدته ليعيش في كنف جدته بعد أن سافر والده للعمل في الأرجنتين.
وما لبث سعادة أن هاجر عام 1919 مع إخوته إلى الولايات المتحدة
الأمريكية وعمل في محطة للقطارات، انتقل بعدها إلى البرازيل المقر الجديد لعمل والده
العالم والأديب والطبيب خليل سعادة.
انكب أنطون على دراسة اللغات البرتغالية والألمانية والروسية،
واتجه في اهتماماته إلى الفلسفة والتاريخ وعلم الاجتماع والسياسة.
ميوله نحو هذه القراءة شجعته على المشاركة مع والده في إصدار
جريدة "الجريدة"، ثم مجلة "المجلة".
وبدأت ميوله نحو الكتابة وله من العمر 18 عاما، فنشر ما بين
عامي 1922 و1923 عدة مقالات طالب فيها بإنهاء الاحتلال الفرنسي واستقلال سوريا، واستشرف
مشروع الحركة الصهيونية وخطره على "سوريا الطبيعية" رابطا بين "وعد
بلفور" بوطن قومي لليهود في فلسطين وبين اتفاقية "سايكس بيكو" التي
قسمت سوريا الطبيعية إلى خمسة كيانات.
من هنا بدأ يفكر في تأسيس حزب سياسي، وكانت المحاولة الأولى
عام 1925 بتأسيس حزب لتوحيد أبناء الجالية السورية في البرازيل باسم "الشبيبة
الفدائية السورية"، لكنه لم يلاق نجاحا. وأعاد المحاولة عام 1927 فأسس
"حزب السوريين الأحرار"، الذي توقف نشاطه بعد ثلاث سنوات.
وإثر توقف مجلة "المجلة" عن الصدور عام 1928 انصرف
سعادة إلى التعليم في بعض المعاهد في ساو باولو. وفي هذه الفترة كتب رواية "فاجعة
حب" التي نشرت فيما بعد في بيروت، وأصدر روايته الثانية والتي حملت عنوان
"سيدة صيدنايا".
كانت نفسه تواقة للعودة إلى المنطقة العربية للبحث عن أرضية
لأفكاره ورؤيته فعاد عام 1930 إلى لبنان، وبعد إقامة قصيرة غادرها إلى دمشق لدراسة
إمكانية العمل السياسي فيها، فمارس التعليم لتأمين رزقه، وكتب سلسلة من المقالات في
الصحف الدمشقية، لكنه سرعان ما عاد إلى بيروت وبدأ بإعطاء دروس في اللغة الألمانية
في الجامعة الأمريكية في بيروت.
أتاح له التدريس مساحة للحوار الفكري مع الطلبة والوسط الثقافي،
إضافة إلى منابر فكرية أتاحتها له عدة جمعيات ثقافية في بيروت، وحفلت هذه المحاضرات
ببواكير فكره "القومي الاجتماعي" في مرحلة ما قبل إعلان الحزب، وهو ما تمخض
عنه فيما بعد المنهج الفكري للحزب "السوري القومي الاجتماعي" الذي أسسه عام
1932، وكان حزبا سريا بسبب ظروف الانتداب الفرنسي على لبنان وسوريا.
نادى الحزب بتوحيد بلاد الشام والعراق وقبرص والكويت ولواء إسكندرون وسيناء، في دولة واحدة تحت اسم سوريا الكبرى، أو ما عرف بـ"الهلال الخصيب".
لاقت دعوة سعادة رواجا في لبنان وسوريا، خاصة بين المعارضين
لمبدأ القومية العربية والمناداة بدولة عربية موحدة من المحيط إلى الخليج. بدورهم اعترض
القوميون العرب المؤمنون بالدولة العربية والبعثيون والشيوعيون على أفكار الحزب.
أعاد عام 1933 إصدار مجلة "المجلة"، وعلى صفحاتها
ظهرت في المشرق العربي، ولأول مرة، دراسات تحليلية لموضوع "الأمة" استنادا
إلى علم الاجتماع الحديث، وبرؤية مستقلة عن نظريات الغرب التي فلسفت الأمة من منظور
عرقي، وسياسي أحيانا أخرى.
وحين لمس سعادة أن الحزب بدأ في الانتشار، فقد عقد الاجتماع العام
الأول للحزب، لكن سلطات الانتداب الفرنسي سرعان ما اكتشفت أمر الحزب فاعتقل سعادة عام
1935 بتهمة "تشكيل جمعية سرية والإخلال بالأمن العام والإضرار بأمن الدولة وتغيير
شكل الحكم"، فأصدرت سلطات الانتداب الفرنسي قرارا بسجنه ستة أشهر، أكمل خلالها
مؤلفه العلمي "نشوء الأمم" الذي صدرت طبعته الأولى عام 1938. ويعد من أهم
المؤلفات باللغة العربية عن علم الاجتماع في بدايات القرن العشرين بعد انقطاع التراث
العربي في هذا المجال بعد مؤلفات ابن خلدون.
ولم يمض على خروجه من السجن وقت طويل حتى اعتقلته سلطات الانتداب
الفرنسي مرة ثانية عام 1936 بعد أن بات الحزب يهدد السياسة الاستعمارية الفرنسية بفصل
لبنان عن سوريا التاريخية، وخلال فترة سجنه الثانية أنجز سعادة كتابه "شرح مبادئ
الحزب وغايته".
وفي العام التالي اعتقل للمرة الثالثة، وبعد إطلاق سراحه
أصدر جريدة "النهضة" التي استقطبت النخبة الثقافية الشابة، وبعد توسع قاعدة
الحزب قام سعادة عام 1938 بجولة خارجية لتفقد مقرات الحزب فسافر إلى الأردن ومنها إلى
فلسطين ثم إلى قبرص وألمانيا، ومنها سافر إلى البرازيل.
وفور مغادرته بيروت قامت السلطات الفرنسية بمداهمة مركز الحزب،
وأوقفت صحيفة "النهضة"، وحظرت الحزب، كما أنها أصدرت مذكرة قضائية بمحاكمة سعادة.
وبضغط من فرنسا سجن سعادة شهرا في البرازيل، فغادر إلى الأرجنتين
بعد خروجه من السجن، وبقي في غربة اضطرارية حتى عام 1947 حيث أصدر جريدة "الزوبعة".
بعد جلاء القوات الفرنسية عام 1946 حاول سعادة العودة إلى
لبنان، لكن تحالف رئيس الجمهورية بشارة الخوري ورئيس الحكومة رياض الصلح عرقل عودته
بحجة الحكم القضائي الصادر بحقه منذ أيام الانتداب.
لكنه أصر على العودة عام 1947، وحين وصلت طائرة سعادة بيروت
أصدرت الحكومة اللبنانية بعد الاستقبال الكبير له مذكرة توقيف بحقه وألغتها بعد ذلك.
أطلق سعادة حركـة مواجهة قومية شاملة في حرب فلسطين
1948.
وشاركت فصائل مسلحة للحزب تسمى "فرقة الزوبعة الحمراء"
في فلسطين في الثورات المتتالية حتى وقعت النكبة عام 1948.
وأصدرت الحكومة اللبنانية سلسلة قرارات منعت بموجبها الحزب
من عقد الاجتماعات العلنية وحدثت عدة صدامات بين أعضاء الحزب والسلطة عام 1949 بعد
الانتخابات البرلمانية الملغاة، كما اصطدم الحزب مع مجموعة من "حزب الكتائب"
وأصدرت السلطات أمرا باعتقال سعادة مما اضطره اللجوء إلى سوريا بعد وعد من حاكمها العسكري
آنذاك حسني الزعيم بعدم تسليمه ومساندته في ثورته، لكن الزعيم نكث بوعده، وبعد شهر
سلمه للسلطات اللبنانية وفق صفقة بين الطرفين، وفي 7 تموز/ يوليو 1949 حكم عليه بالإعدام
رميا بالرصاص حيث نفذ الحكم فجر اليوم التالي
مباشرة.
السلطات السورية في ذلك الوقت نفت تسليمه وقالت إن الحكومة
اللبنانية ألقت القبض عليه في أثناء انتقاله بين البلدين. وصنف عدد من الباحثين هذه
المحاكمة الصورية بوصفها اغتيالا سياسيا صريحا تستر بهيبة القانون.
وانتقاما لإعدامه قام ثلاثة من أعضاء الحزب وهم ميشيل الديك
(لبنان) واسبيرو وديع (سوريا) ومحمد أديب الصلاح (الأردن) باغتيال رياض الصلح في العاصمة
الأردنية عمان عام 1951.
بقي الحزب قريبا من القضية الفلسطينية وشارك في الصراع العربي
الإسرائيلي بعمليات عسكرية وفدائية كثيرة منذ بدايات الثمانينيات حتى نهايات التسعينيات،
وتعتبر سناء محيدلي واحدة من أبرز فدائيات الحزب في الجنوب، وخالد علوان منفذ عملية
مقهى الويمبي ضد جنود الاحتلال الإسرائيلي في وسط بيروت والتي كانت السبب في معاودة
العمليات الفدائية ضد الجيش الإسرائيلي وانسحابه من بيروت.
نشرت لسعادة عدة مؤلفات لعل في مقدمتها "نشوء الأمم"
و"المحاضرات العشر" وشرح فيه المفاهيم الموسعة لمبادئ الحزب السوري القومي
الاجتماعي. و"الصراع الفكري في الأدب
السوري".
و"الإسلام في رسالتيه: المسيحية والمحمدية"، وهو عبارة عن
مجموعة مقالات وردود له جمعت في كتاب شرح فيه موقف الحزب من الدين.
ونشرت له الكثير من المقالات والخطب والمراسلات جمعت في
كتاب وصدرت بعنوان "الأعمال الكاملة لأنطون سعادة".
دخل الحزب السوري القومي بصراعات سياسية عدة مع الأحزاب السياسية
في سوريا ولبنان، وحصلت انشقاقات داخل الحزب أدت إلى ظهور أجنحة سياسية مختلفة. وحظر
الحزب من العمل السياسي في سوريا بعد اتهامه باغتيال العقيد عدنان المالكي في الملعب
البلدي في دمشق عام 1955.
بقي الحزب ممنوعا من العمل بشكل رسمي في سوريا، رغم تقارب
حافظ الأسد مع القوميين السوريين إبان المقاومة الشعبية لاجتياح لبنان في 1982
بعد وفاة حافظ الأسد، انضم الحزب إلى الجبهة الوطنية التقدمية
تحت حكم بشار الأسد، وتابعوا عملهم بشكل رسمي وسمح لهم برفع أعلام الحزب على المقرات
الرسمية.
والحزب هو ثاني أكبر مجموعة سياسية في سوريا بعد حزب البعث
العربي الاشتراكي. وفي لبنان، كان الحزب منظما للغاية خلال التاريخ السياسي للبلاد
لأكثر من 80 عاما. وحتى الآونة الأخيرة حينما أصبح مجموعة رئيسية في تحالف 8 آذار.
لكن على أرض الواقع لم يتبقى الكثير من الأفكار التي آمن
بها سعادة، بعد ما امتد النفوذ الإيراني والروسي والأمريكي إلى غالبية أراضي سوريا
الطبيعية، وبدا أن الفكرة التي آمن بها الرجل قد استثمرها البعض لمكاسب سياسية هزيلة
لا ترقى إلى مستوى مشروعه القومي الكبير.