كثيرون قذفت بهم الجائحة إلى عزلة إجبارية، ربما قاربوا، في بدايتها الفاجعة والطاحنة، المليارات، البعض تضاعفت عزلتهم، مرة، ومرتين، وأكثر، من بينهم متعلمون وأميون، المتعلم المعتاد على ارتياد المكتبات العامة، أو على شراء واقتناء الكتب، قد يكون عانى معاناة مضاعفة أكثر، فقلب في مكتبته عن كتب تخفف وطأة كل هذا، في أيامها الأول رغبت في معاودة قراءة بعض ما قرأته مما له علاقة ما بالحدث الذي كان جللا في بدايته، قراءة مراجعة وطمأنة، فليس أكثر فائدة للنفس من أن تتذكر وقع حدث قديم على علاقة ما بحدث جديد به الكثير من المغايرة، وهكذا عاودت قراءة نازك الملائكة، وقصيدتها الكوليرا، ثم بحثت عن رواية أندريه شديد "اليوم السادس" التي كتبتها وقد استدعت وقائع جائحة الكوليرا التي ضربت مصر في سنة 1947، وعاشت بعض أحداثها بنفسها. وعندها لاحظت مفارقة أن الذاكرة الأدبية العربية عن الكوليرا أنثوية، وفكرت أن هذا يحتاج وقت للتفكير في معانيه ودلالاته.
أريد أن أشارككم بعض بحثي في تصدير "شديد" لروايتها، فقط التصدير، فقد استغرق مني بعض التدقيق، ووجدت نتائجه كافية بمفردها كي استلها، واعزلها عن الرواية وأفكر فيها بمفردها، وأعرض كل هذا عليكم.
تصدر أندريه شديد روايتها (الصادرة بالفرنسية عام 1960) بمقولة لأفلاطون في محاورة "جورجياس"، وتكتسب المقولة والمحاورة أهمية فائقة عند التدقيق فيما ترمي إليه "شديد" من ذلك التصدير، وما يضفيه على الرواية من زخم، وما يضيئه من معان قد تبدو خافية للوهلة الأولى. والتصدير قد يشير إلى أن الكاتبة ربما تتبع أسلوب أفلاطون، الذي شغف في حداثته بالشعر، ثم انصرف إلى الفلسفة بعد أن تعرف على أستاذه سقراط وأعجب به وبحواره، دون أن يتخلص تماما من لغته الشعرية.
في المحاورة هناك عدة شخصيات، أولهم: سقراط، بطل المحاورة، والذي يتقمص أفلاطون آراءه وأفكاره "السامية" المتعلقة بطبيعة البيان والأخلاق. ثم هناك "جورجياس"؛ الذي تسمى المحاورة باسمه، والذي كان من أئمة السفسطائيين ومن أشهر خطبائهم ومعلميهم؛ وأفلاطون؛ كما أستاذه سقراط، كان قد رأى الكثير من أحوال أولئك السفسطائيين الذين كانوا ينادون بأن الفرد مقياس كل شيء، وبأن الحواس أساس المعرفة، وبأن حقائق الأشياء لا يمكن أن تعرف معرفة يقينية، وكان "جورجياس"؛ الذي زار أثينا حوالي سنة 424 ق.م، يدعي أن في استطاعته أن يجيب على كل سؤال، وكان يقول: "أنه ليس من الضرورة أن تعلم شيئا عن الموضوع لتجيب عن الأسئلة التي توجه إليك بشأنه"، ولقد حاول بعد هذا أن يثبت في كتابه "اللاوجود" أنه "لا يوجد شيء، وإذا وجد فلا سبيل إلى معرفته، وإذا أمكن أن يعرف فلا سبيل إلى إيصالها (هذه المعرفة) للغير!".
المحاورة نشر ترجمتها العربية، للمرة الأولى، الدكتور محمد حسن ظاظا، ونشرها مسلسلة في مجلة الرسالة (1938)، ثم نشرها في كتاب (1971)، كما قام بترجمتها شوقي داود تمراز ضمن ترجمته لمحاورات أفلاطون الكاملة.
اقرأ أيضا: عرض فيلم "بلا سقف".. ضمن فيلم الأسبوع الفلسطيني
يعتبر الدكتور حمادة إبراهيم؛ مترجم "اليوم السادس"، أنها "رواية رمزية، فالكوليرا فيها تمثل القضاء والقدر في أبشع صورهما، والطفل المريض "حسن" يمثل الإنسان بكل ما فيه من ضعف، أما جدته "أم حسن" فهي تجسيد للحب، والإيمان في الحياة والأمل في المستقبل"، ويصف "شديد" بأنها "شاعرة عظيمة"، ويترجم مقولة أفلاطون- على لسان سقراط؛ الذي هو عبارة عن "قناع" لأفكار وآراء أفلاطون نفسه- هكذا: "استمع. ستظن أن هذه أسطورة، ولكنها في رأيي رواية منقولة: فاستمع إلى ما سأتلوه عليك على أنه حقيقة"، في حين جاءت ترجمة "ظاظا" هكذا: "استمع إذن كما يقولون إلى قصة جميلة، وقد تعتبرها خرافة، ولكني أعتبرها قصة حقيقية، إنني أقدم لك الأشياء التي أحدثك عنها على أنها صحيحة"، وهي في ترجمة تمراز هكذا: "استمع، إذن، كما يقول ساردو القصص، استمع إلى قصة جميلة جدا، هي التي أجرؤ القول إنه يمكنك أن تكون مستعدا لأن تعتبرها كأنها وهم فقط، لكنها كما أعتقد قصة حقيقية؛ وما ذاهب لأقوله، أقدمه كالحقيقة".
المقولة تأتي مباشرة بعد عنوان فرعي؛ يترجمه "ظاظا" بـ"أسطورة الآخرة"، أما تلك "القصة الحقيقية" المتعلقة بها فيترجمها هكذا: (هناك) قانون.. ما زال قائما إلى اليوم: وهو أن من يموت بعد حياة عادلة طاهرة بأكملها يذهب بعد موته إلى جزيرة السعداء حيث يقيم بمأمن من جميع الشرور وفي سعادة كاملة، هذا بينما تمضي النفس الظالمة الكافرة إلى مكان التكفير والعذاب، وهو ما يسمونه الترتار"، وفي الهامش يذكر "ظاظا" أن هوميروس قد عرف "الترتار"؛ في " الإلياذة"، على أنه سجن الآلهة، في حين جاءت ترجمة "تمراز" عن "القصة الحقيقية" في كلمات مغايرة، فهي تتعلق بـ: "قانون يخص قَدَرَ الإنسان الذي كان دائما، وسيدوم في السماء- وذلك أن الذي قد عاش كل حياته في العدل والقداس، سيذهب عند وفاته إلى الجزر المباركة، ويسكن هناك في سعادة كاملة لا وصول للشر إليها. لكن الذي عاش بظلم وكفر سيذهب إلى السجن مكان أخذ الثأر والعقاب، الذي يدعى الجحيم.".
ويبقى لنا أن نتعرف على التفرقة التي يقدمها الدكتور كاتلين بارتني، ضمن مقاله "أساطير أفلاطون"، في "موسوعة ستانفورد للفلسفة"، حيث يذكر أنه: "يختلف ما أطلق عليه اليونانيون لفظ حكاية شفهية muthos في معناه تماما عما نقصده نحن ووسائل الإعلام الآن بلفظ "أسطورة myth"، فإن الحكاية الأسطورية بالنسبة إلى اليونانيين تعتبر قصة حقيقية؛ قصة تكشف الأصل الحقيقي للعالم والإنسان. أما بالنسبة إلينا فتُعتبر الأسطورة أمرا غير ثابت. فهو اعتقاد منتشر وشائع، لكنه زائف".
أما المحور الرئيسي الذي تدور حوله "أسطورة الآخرة"، وبالتالي تصدير "شديد"، فهو ما يذكره سقراط كحكم نهائي في ختام المحاورة: "إن أعظم شر يحيط بالإنسان هو الفقر، وشر الجسم هو الضعف والتشويه. وشر الروح هو الظلم والجهل والجبن وما شابه. إذن، شر العقل هو الظلم، والجسد المرض، والوضع الفقر، وشر الروح والظلم هما أكثرهما عارا".