حين يضطر صبي نتنياهو، وصهر ترامب (جاريد كوشنر) إلى تأسيس معهد باسم "اتفاقات أبراهام"، لدفع عملية السلام، وشرح فضائل التطبيع، فهذا يعني أنه قد بدأ يشعر بالمأزق، فما بشّر به طوال الشهور التي سبقت رحيله مع سيده عن البيت الأبيض لم يكن حقيقيا.
كذلك حال ما بشّر به نتنياهو وترامب، فيما يتعلق بعدد الدول العربية التي ستلتحق بقطار التطبيع، فقد انحسرت الموجة من الناحية العملية، وانتهى الأمر إلى إضافة (الإمارات، البحرين، المغرب والسودان) إلى قائمة التطبيع الثابتة (مصر والأردن).
وقد تميّزت هذه الموجة من التطبيع بقدر كبير جدا من الابتذال في الاحتفال بالعلاقة مع الكيان الصهيوني. أما الأهم، فهو تميّزها بمساعي فرض التطبيع على الشعوب أيضا، بخاصة في الحالة الإماراتية، الأمر الذي لم يكن موجودا خلال موجة التطبيع السابقة بعد "أوسلو" و"وادي عربة"، وحيث بقيت الشعوب في حال أخرى على هذا الصعيد، الأمر الذي ينطبق على النموذجين المصري والأردني أيضا.
كانت موجة ما بعد "أوسلو" أكثر اتساعا من حيث عدد الدول المطبّعة، ليس في الفضاء العربي وحسب، بل في الفضاء الأفريقي والعالمي المناصر للحقوق الفلسطينية، لكن ذلك كله ما لبث أن انهار إلى حد كبير بعد انتفاضة الأقصى التي اندلعت نهاية أيلول من العام 2000.
لم تمض سوى شهور على بدء الانتفاضة وانطلاق مسيرة الدم والبطولة، حتى بدأت الدول المطبّعة تعيد النظر في علاقاتها مع الكيان، وبالطبع أمام مدٍّ جماهيري متفاعل مع قضية كانت وما تزال قضية الأمّة المركزية.
منذ انطلاق موجة التطبيع الأخيرة، ونحن نقول إن مصيرها لن يختلف عن مصير الموجة الأولى، لأن الشعب الفلسطيني لن يلبث أن ينفجر في وجه الغزاة من جديد
منذ انطلاق موجة التطبيع الأخيرة، ونحن نقول إن مصيرها لن يختلف عن مصير الموجة الأولى، لأن الشعب الفلسطيني لن يلبث أن ينفجر في وجه الغزاة من جديد، ولن تلجمه هذه المرحلة البائسة التي رسم عباس خطوطها، وهي ذاتها التي شجّعت المطبّعين، أو منحتهم المبررات في أقل تقدير.
نعود إلى القول إن موجة التطبيع الأخيرة لم تكن كسابقتها من حيث مستوى الابتذال، ففيها شهدنا تبرئة للعدو، تقابلها شيطنة للفلسطيني في وسائل إعلام معروفة تنتمي لأنظمة "الثورة المضادة"، ومن خلال حسابات موجّهة في مواقع التواصل، ورأينا هاشتاغات تتكرر على شاكلة "فلسطين ليست قضيتي"، وكل ذلك ضمن سياق يتعلق بمواجهة الربيع العربي و"الإسلام السياسي"، وفي سياق من تبرير التطبيع أيضا. وتخيّل البعض أن الحملة المذكورة قد حققت الكثير من النجاحات، فيما كنا نقول دائما إن ذلك ليس صحيحا، وإن الغالبية الساحقة من أبناء أمتنا لم يغادروا مواقعهم القديمة في اعتبار فلسطين قضيتهم المركزية، رغم الجراح الكثيرة التي تشغلهم.
في هبّة القدس الرمضانية وعموم المعركة الراهنة؛ تجلّت هذه المعادلة على نحو واضح، ليس بتغيير الدول المطبّعة لمواقفها، فالأمر لن يكون بهذه السهولة، بل تجلّت بتأكيد الموقف الشعبي العربي والإسلامي المنحاز لفلسطين دون تردد، والذي أصاب صهاينة العرب بالإحباط، وجلّلهم بالعار في الآن نفسه.
لقد وجدوا أن حملتهم التي أداروها لسنوات، لم تنتج سوى الأوهام، وتابعوا كيف جعلها الصمود الفلسطيني في القدس والأقصى ثم بطولات المقاومة في غزة، والهبّة الاستثنائية في مناطق 48، بجانب حراك الضفة الذي يتطور.. جعلها مثل عصف مأكول، ورأوا كيف عادت جماهير الأمّة تنبض بحبّ القدس والأقصى كما كانت دائما.
لا شك أبدا في انتماء هذه الأمّة لفلسطين وقدسها وأقصاها، لكن حجم التفاعل يتغير بناء على الأحداث، الأمر الذي ينسحب على أحرار العالم أيضا، ونتذكر هنا كيف كشف استطلاع رأي للاتحاد الأوروبي في العام 2002، وفي ذروة العمليات الاستشهادية؛ أن 59 في المئة من الأوروبيين يرون "إسرائيل" الدولة الأخطر على السلام العالمي.
الشق الآخر من هذه السطور يتعلق بمعادلة الأجيال، فما حدث طوال السنوات الماضية هو أننا كلما بشّرنا بانتفاضة جديدة، خرج من يحدّثنا عن واقع الضفة الغربية وما فعله عباس من حيث تدمير إمكانات المقاومة المادية والمعنوية، وكنا نردّ بأن اليأس الذي يصيب الكبار لا ينسحب على الأجيال الجديدة التي تملك قابلية عالية للتضحية، وهي تنتظر الفرصة لذلك.
الذين رأيناهم يواجهون العدو في القدس والأقصى، ثم في الضفة، فضلا عن رجال غزة، هم من هذا الجيل الذي لم يعرف سوى مرحلة عباس بكل ما حملته من بؤس وهزيمة
الذين رأيناهم يواجهون العدو في القدس والأقصى، ثم في الضفة، فضلا عن رجال غزة، هم من هذا الجيل الذي لم يعرف سوى مرحلة عباس بكل ما حملته من بؤس وهزيمة وتعاون أمني مع العدو، لكنهم أظهروا تمرّدا استثنائيا في هذه المعركة.
وإذا قيل إن الأمر يتعلق بالقدس والأقصى، فالرد هو أن هذا هو السر، فما دام الغزاة يرون أن عنوان مشروعهم الذي لن يتخلّوا عنه يتمثل في القدس و"الهيكل"، أي المسجد الأقصى، فإن إمكانية الانفجار ستظل كامنة مهما سعى الغزاة أنفسهم والمهزومون من قادة رام الله أو أنظمة العرب أن يمنعوها.
لفلسطين طقوسها في اجتراح البطولة والمعجزات، فلا يأس أبدا، ولكل مرحلة رجالها، وهذا ينسحب على أبناء الأمّة الذين تفاعلوا مع هبّة القدس كأنهم فيها ومنها.
إنها مرحلة جديدة سيكون لها ما بعدها، فوحدة فلسطين خلف خيار المقاومة هو السبيل الذي لا سبيل له لفتح باب التحرير، وكنس الغزاة بإذن الله.