لم تَمنعني حالة الكآبة
العامّة التي نعيشُها هذه الأيّام من مُشاهدةِ عمل سينمائي ضخم من حيث النص
والإخراج والتمثيل، ويحملُ قيما إنسانية عظيمة، و كنتُ أعلمُ مُسبقا أنّه سيفاقمُ
من سوء الشعور بهذه الحالة؛ وذلك لارتباطهِ بموضوع غاية في الحساسيّة ويؤرّقُ
البشرية، ألا وهو فقدان الذاكرة وخرف الشيخوخة، والذي قدّمه المخرج والكاتب
الفرنسي (فلوريان زيلر)، في فيلم الأب، والمقتبس من مسرحية له. وقد لعب دور
البطولة فيه أنتوني هوبكينز بأداء مُبهر، وجسّد فيه معاناة رجل، وأب، ومُهندس
ثمانيني، والذي يبدأ بفقدان ذاكرته تدريجيا، يصحبها نوبات من البارانويا والمزاجية
والشعور بالخوف والقلق. وقد نال هوبكينز جائزة الأوسكار عن دوره هذا بجدارة.
فيلم «الأبّ» ليس الأوّل الذي يتناول موضوع
فقدان الذاكرة، أو ما يسمى بمرض (الزهايمر)، لكنه تفرّد برواية القصّة من وجهة نظر
المريض، بينما رواها الآخرون بأعين وعلى ألسنة المقربين والمحيطين. وقد نجح المخرج
في نقلنا من الموقع الاعتيادي للمُشاهد المُحايد إلى قلب الحَدث، ليضعنا داخل رأس
(أنتوني) لنعيش في ذهنه المشوش، كما لو كنا نحنُ من نُعاني ونصارع للتغلب على خرف
الذاكرة والانتصار للوعي الحقيقي، وقد نجح المخرج في توجيه رسالة للمشاهدين،
مَفادُها أنّ أيّا منّا يُمكن أن يكون في موقع (أنتوني).
وقد شغلَ كلٌ من المكان والزمان حيزا مُهما في
حبكة الفيلم؛ فمن خلال تلاعب المخرج بهما بصورة مستمرة كما يراهما بطل الفلم، قدّم
لنا أداة مهمة لالتقاط الحالة الذهنيّة له، والتي أفقدته القدرة على الإمساك
بالواقع، وأفقده اليقين حول طبيعة المكان، ليعكس الذاكرة المشوشة واختلاط الحقيقة
بالخيال الذي يُعاني منه الأبّ. بل وضعنا في موقف التعاطف مع (أنتوني)، بل
والتعاطف مع أنفسنا، وجعل المشاهد في حيرة من أمره بين مصدِّق ومكذّب لما يشاهده
من أحداث، والحكم على صحتها من وجهة نظر الأب المشوش أو الابنة التي تعاني جراء
حالة والدها.
ويُناقش الفيلم معاناة أهل المريض في مثل هذه
الظروف الإنسانية، والمنقسمين بين الاعتناء بمن يُحبون، وبين متطلبات حياتهم
العصريّة والمعقدة. يحدث هذا في الدول الغربية، والتي تتمتع بقدر معقول من الرعاية
الاجتماعية، فما بالك في بلادنا التي كانت تقوم العائلات الممتدة بهذا الواجب،
لكنها تخلّت عن لعب هذا الدّور تحت تأثير متطلبات الحياة العصرية، والتي أصبحت
أقرب إلى الحياة الغربية لكن دون أن تقوم الدولة بملء هذا الفراغ ولو بصورة جزئية.
لقد تضاعف متوسط عُمر الإنسان المتوقع خلال العقدين الماضيين نتيجة لتطور الطّب،
وتحسّن التغذية والبيئة، فارتفع معدل أعمار البشر في جميع الدول حيث يتوقع أن
يشكّل كبار السن خمس السّكان في معظم الدّول بحلول العام 2050. وهذا التطور قد جلب
معه العديد من الأمراض الذهنية والجسدية، والتي غالبا ما تجتمعُ عند نفس الشخص
فتزيد من وضعه الصحي تعقيدا.
تقول التقديرات إنّ حوالي خمسين مليون شخص
مُصابون بالخرف حول العالم، ومن المتوقع أن يتضاعف هذا الرقم كل عقدين من الزمن،
كما أن كلفة رعاية هذه الفئة من المرضى تجاوزت 600 مليار دولار سنويا، ويتوقع أن
تصل إلى ترليون دولار سنويا خلال الأعوام القادمة.
وتتطلب الرعاية الصحية لهؤلاء المرضى توفّر
أنظمة رعاية صحية واجتماعية متناسقة، وكوادر بشرية مؤهلة، ومدرّبة على هذه
الرعاية. كما يجب أن تتسم هذه الرعاية بالديناميكية وفقا للاحتياجات المتغيرة لهؤلاء
المرضى لضمان توفير حياة أفضل لهم.
لقد نجحت المجتمعات الحديثة والمدججة
بالتكنولوجيا في إطالة مكوث الإنسان في هذه الحياة لكنها فشلت في رعاية هذا
الإنسان، مما يجعلنا نتساءل حول جدوى هذا «الإنجاز» وفيما إذا كانت حياة الإنسان
تعدّ بالسنوات أم بجودة الحياة خلال هذه السنوات المعاشة.
(الغد الأردنية)