دائما ما منحنا النضال الفلسطيني دروسا عابرة للشعوب؛ لأنه نضال يمثل الشعوب المظلومة جميعها، وليس فقط الشعب الفلسطيني.
انتفاضة الشعب الفلسطيني الجديدة التي تجتاح القدس منذ أيام، كشفت دروسا كثيرة، كان الكثيرون يتحدثون عنها في زمن التيه الرسمي العربي، ولكن الأحداث المشتعلة هذه الأيام، جاءت لتؤكدها من جديد.
أول ما كشفته الانتفاضة هو أن هناك شيئا واحدا يوحّد الفلسطينيين جميعا، داخل الوطن المحتل من بحره إلى نهره، وفي الشتات، وهو الاشتباك مع الاحتلال ومقاومته المستمرة. جاءت الأحداث في ظل انقسام كبير زاد من حدته اتفاق الفصائل الفلسطينية على عقد الانتخابات التشريعية متبوعة بانتخابات الرئاسة، فقد قسمت هذه الانتخابات حركة فتح إلى ثلاث قوائم، وفتحت جدلا كبيرا في صفوف أنصار حركة حماس، والأهم والأخطر من ذلك أنها كانت من المتوقع أن تتسبب بانقسامات كبيرة بعد إجرائها بغض النظر عن الفائزين والخاسرين فيها.
وسط هذا الانقسام القائم والمحتمل، وحّدت انتفاضة القدس الفلسطينيين جميعا لسببين رئيسيين: أولهما أنها معركة واضحة لا لبس فيها، ولا فصائلية فيها، بل هي معركة الفلسطينيين ككل مع الاحتلال، وثانيهما أنها أعادت الصراع إلى مربعه الحقيقي والجذري الأول بين شعب محتل واحتلال غاصب، فيما كان الصراع سابقا ملتبسا، يعطي صورة مخاتلة عن صراع بين كيانين (السلطة والاحتلال)، وأحيانا صراعا داخليا على إدارة سجن كبير اسمه "سلطة" تحت سقف أوسلو في الضفة الغربية وقطاع غزة، مع اختلاف في التفاصيل بين الوضع في الضفة والقطاع.
كشفت الانتفاضة أيضا أن النضال والفعل الفلسطيني يوحّد الشعوب العربية وليس فقط الشعب الفلسطيني
كشفت الانتفاضة أيضا أن النضال والفعل الفلسطيني يوحّد الشعوب العربية وليس فقط الشعب الفلسطيني. يعطي النضال الفلسطيني للعرب صورة واضحة عن الصراع لا لبس فيها، ويمنحهم -وهذا الأهم- أملا بتحقيق أهداف وإن كانت صغيرة، ويجمعهم على الوقوف خلف الشعب الفلسطيني في معركة مع احتلال لا يمثل أزمة فلسطينية فقط، بل أزمة عربية بامتياز، ويؤكد لهم أن ادعاءات الاحتلال عن الرغبة بتسويات وبسلام مع العرب هي ادعاءات كاذبة، إذ إنه يريد استسلاما عربيا وفلسطينيا كاملا، لا تسويات عادلة -حتى بمنظور القوانين الدولية الظالمة للفلسطينيين-.
أثبتت الثورات الشعبية العربية التي انطلقت موجتها الأولى عام 2010-2011 أن الشعوب العربية يتأثر بعضها ببعض، وأن حراكا شعبيا في أي دولة قادر على تحريك آمال وتطلعات شعوب الدول الأخرى، وليس مثل فلسطين ونضالات شعبها ما يمكن أن يلهم الشعوب العربية لمتابعة جولات جديدة من نضالاتها لتحقيق انتصارات، ولو جزئية، في معركتها الطويلة ضد الاستبداد والاستعمار في آن واحد.
كشفت انتفاضة الفلسطينيين في القدس ما كنا نؤكده دائما من أن محاولات "كي الوعي" تجاه فلسطين وشعبها ستسقط عند أول حراك نضالي فلسطيني، وأن أوهام فرض التطبيع على الشعوب عبر اتفاقيات مدججة بدعايات إعلامية رسمية في الإعلام الرسمي ومواقع التواصل الاجتماعي على حد سواء، ليست سوى سراب سيكشف زيفه أول منعطف في الصراع بين الشعب الفلسطيني والاحتلال.
لقد صارت وسائل التواصل الاجتماعي خلال الأيام الماضية كلها "تتكلم فلسطيني"، وظهرت البوصلة الحقيقية لشعوب المنطقة، عربا وأمازيغ وأكرادا، مسلمين ومسيحيين، وأحرارا من كل بقاع الأرض. غزت الفيديوهات القادمة من القدس كل الفضاء الأزرق، وعادت الرواية الحقيقية غير المدفوعة بجيوش إلكترونية لتتسيّد النقاش العام، وغابت المنشورات المدفوعة عن "بيع الفلسطينيين لأرضهم" أو "فلسطين ليست قضيتي"، لتحل مكانها في كل "تريندات" دول المنطقة العربية "القدس تنتفض".
باختصار، ليس هناك من شيء يوحد الفلسطينيين والعرب وأحرار العالم، وليس من شيء يكشف زيف "التطبيع المصنوع رسميا"، وليس من شيء يكشف حقيقة الصراع في المنطقة، مثل النضال الفلسطيني، وقد كان هذا دوما دور الشعب الفلسطيني، وهكذا سيظل، حتى إعادة الحقوق كاملة غير منقوصة لأصحاب الأرض والحق!