الزمان: السابع عشر من نيسان/ أبريل، والمكان: قاعدة حميميم، رمز الاحتلال الروسي في اللاذقية، والحضور: ضباط الاحتلال الروسي مع أحفاد ذيل الاحتلال الفرنسي بالأمس ودعاة الاحتلال الروسي اليوم، والمناسبة: الاحتفال برحيل الاحتلال الفرنسي عن سوريا قبل خمسة وسبعين عاماً!
هل يحتاج كاتب سيناريو هوليودي لغرائب وعجائب وبهارات وأكسسورات لرواية خيالية أكثر من هذه الخلطة العجيبة الغريبة، لكنها حقيقية وواقعية، ليخرج علينا بفيلم ربما يحصد مشاهدات لم يحصدها أي فيلم هوليودي من قبل.
في قاعدة حميميم قبل أيام احتفل ضباط المحتل الروسي ومعهم شبيحتهم من العصابة الطائفية برحيل الاحتلال الفرنسي عن سوريا عام 1947، وطالبوا برحيل القوات الأمريكية والتركية عن سوريا. أما المحتلان الروسي والإيراني اللذان كانا سبباً في كل مآسي سوريا على مدار أحد عشر عاماً قتلاً وتهجيراً وتدميراً، فهؤلاء من عظام الرقبة الطائفية، والأغرب من ذلك كله أن من يقوم بالاحتفال ليس العصابة الطائفية التي سُلبت حتى صلاحيات كهذه ولو كانت احتفالات رمزية.
يترافق الاحتفال مع تصريحات وزير الدفاع الروسي سيرغي شويغو وهو يتبجح بتجريب كل أسلحة روسيا الحديثة على الأجساد الغضة لأطفال سوريا، لكن لا يزال الفارق كبيراً بين الاحتلال الفرنسي بالأمس والروسي-الإيراني اليوم، فالفرنسي قبل قرن كامل استطاع على الأقل أن يستفرد بسوريا كلها بعد أن أقنع الاحتلال البريطاني بالرحيل عنها وتسليمه إياها كاملة ومعها لبنان، أما المحتل الروسي اليوم فهو شريك لأربعة جيوش، وقد عجز حتى عن تهميش دور مليشيات طائفية بمستوى "فاطميون" و"حزب الله" و"زينبيون"، وهو الذي صدّع رؤوسنا بالسيادة الوطنية التي أراد إعادتها للعصابة الطائفية، ليتبين أنه عبارة عن مليشيات لا تختلف كثيراً عن المليشيات الإيرانية وحزب الله و"فاطميون" و"زينبيون"، وقد يتفوقون عليه في بعض المناطق نفوذاً وتأثيراً، الفارق بينه وبين هذه المليشيات هو أنه مليشيات لكن برتبة جيش دولة كبرى.
أما حكام دمشق فقد أثبتوا من خلال هذا الاحتفال أنهم ذرية بعضها من بعض، وجددوا الوثائق التي خلّفها التاريخ بتوقيع جد حافظ الأسد مطالبين فرنسا بعدم الانسحاب من سوريا عشية الاستقلال، وهي الوثيقة التي رفعها المبعوث الفرنسي في الأمم المتحدة عام 2013 بوجه مندوب النظام السوري، ولم يحرْ جواباً يومها. أما النظام السوري اليوم وخلال الاحتفال البائس فقد جدد عمالته وتمسكه بالاحتلال علناً هذه المرة، وليس بوثيقة سرية لم يطلع عليها العالم إلاّ بعد سبعين عاماً. فقد تناقلت وسائل الإعلام تقديم بعض زبانيته المحسوبات عليه وروداً حمراء لضباط الاحتلال الروسي وأمام عدسات التلفاز، ليظهر مدى تفوق الأحفاد على الأجداد في الاستقواء بالمحتل الأجنبي على حساب الوطن وأهله.
المثير للضحك أن دولاً أرسلت تهنئة للعصابة الطائفية في دمشق بمناسبة رحيل الاحتلال الفرنسي عن سوريا قبل 75 عاماً، وكأنها لم تسمع بوجود محتلين أجانب في سوريا على مدار عقد كامل، ونسيت أو تناست أيضاً أن الداعي للاحتفال هو المحتل الروسي وفي قاعدته حميميم، رمز الاحتلال الراهن، فكان من الأولى إرسال التهنئة لمن رتب الاحتلال.
على الطرف الآخر كان الشعب السوري الذي انتفض ضد العصابة الطائفية يراقب الإعلان الأمريكي بالانسحاب من أفغانستان بعد مرور عشرين عاماً؛ بعين الثقة بثباته على مبادئه في انتزاع حريته. فأمريكا وعلى الرغم من إمكانياتها المالية الضخمة تعلن اليوم أن الانسحاب كان لتوفير نفقاتها من أجل مواجهة استحقاقات داخلية، فكيف بواقع روسيا التي تئن تحت ضغوطات وعقوبات اقتصادية ضخمة، ولا يساوي اقتصادها شيئاً مقابل اقتصاد دولة مثل أمريكا؟ وإلى متى ستقاوم موسكو كل هذه الضغوط وهي ترى الواقع الاقتصادي والمعيشي للمناطق الخاضعة لسيطرتها؟
إنّ رسالة الانسحاب الأمريكي واضحة، وهي أن كل احتلال إلى زوال طال الزمن أم قصر، ما دامت الشعوب متمسكة بحقها في الحياة الكريمة والعيش العزيز. ولقد أثبتت السنوات العشر الماضية أن الشعب السوري لم يكل ولم يمل على الرغم من استخدام كافة صنوف الأسلحة المدمرة والمحرمة بحقه، والتي كان واحداً منها كافياً ليعلن أي شعب آخر الاستسلام ويرفع الراية البيضاء. وأتى تشريد أكثر من 12 مليون شخص ليصوّت من جديد ضد الاحتلال وذيله، وأن الشعب مستعد للتخلي عن أرضه وأملاكه وبيوت آبائه وأجداده في سبيل حريته وعزته وكرامته، بعد أن رأى العالم كله إخلاء مدن بكاملها يوم دخلها الاحتلال وعملاؤه.