كلما سُررنا بإنجازات المقاومين خشينا تسلل المساومين، وقد تعلمنا من التاريخ أن الأحداث الكبرى يصنعها الرجال ويستغلها الأطفال. قد تكون تلك ظاهرة تاريخية لها أسبابها وقوانينها الكامنة في طبائع الأنفس وفي حدود الرؤى الفكرية، ولنا أن نتأمل العديد من التحولات الكبرى في مجتمعات مختلفة كم استهلكت من الأرواح والدماء والأجساد والعقول؛ حتى إذا ما نضجت ملامحُ المشهد الجديد انقضّ المتربصون على الحلم الجميل يُفرغونه من وهجه ولا يُبقون منه غيرَ السراب.
هل يكفي أن نكون صادقين دون الاحتراس من المنافقين؟ المنافقون والمساومون يعتقدون أنهم الأذكى؛ يستفيدون من صدق واندفاع المقاومين ويعرفون أنهم لا يطمعون في مقابل ولا ينتظرون سلطة أو مالا أو وساما، وأن شعارهم "النصر أو الشهادة".
لا نستغرب إذا رأينا المساومين يحرصون على إذكاء وهج
المقاومة، إنهم يريدون تنمية محصول المساومة حين يوشك المشهد الجميل على الاكتمال، وحين يضطر
الاحتلال أو الاستبداد إلى البحث عن شريك وديع.
يقول المقاومون الصادقون: "لكم الأوطان ولنا الجنان"، ويقول المساومون المنافقون: "لكم الجنان ولنا الأوطان".
يرث المساومون عن الشهداء الأوطان يفعلون بها ما يشتهون، ويكتفون بإقامة النصُب التذكارية والاحتفالات والأعياد تخليدا لذكرى وتبديدا لحلم جميل.
المساومون يتمرغون في دماء الشهداء ويطلعون كعفاريت الجان على الأوطان، يصرفون رصيد المقاومين في بنوك الاستبداد الدولي ويستثمرون أوجاعهم في تنمية مشاريع الاستعباد.. إنها مأساة حقيقية أن يموت "الرجال" وتموت من بعدهم "الآمال" على أيدي ورثة من السفهاء والعملاء.
وحتى لا تكون "الشهادة" مجرد ميتة شريفة وحتى تكون شهادة على العصر، لا بد أن يقبض المقاومون على دمائهم وعلى أحلامهم معا، وأن يحرسوا أرواحهم ومشاريعهم بأنفسهم، حتى إذا ما ارتفع شهيدٌ تلقف دمه الصادقون من بعده بإرادة أصلب ورؤية أوضح ووعي أعمق وعزم أقوى على مواجهة الظلم والاستبداد وعلى حماية الأوطان والإنسان.
قرأت لجامعي من "الثوريين" القدامى في ما يرويه عن نفسه من ردّ على أحد رفاقه حول الاستشهاديين يقول: "قلتُ له دعه يبحث عن الشهادة ودعني أفكر". أدركت أنه يعرف أن محصول المقاومة لن يذهب إلا إلى المتربصين، وأيقنت أن دماء الشهداء "حرام" حين تُودع في غير سياق التاريخ.
وحتى لا تكون "الشهادة" اختزالا لمشروع الحياة وتسريعا بالهروب من مواجهة الظلم والاستبداد، لا بد أن نبحث عن آثارها في التاريخ وفي حركة المجتمعات نحو التحرر.
المقاومة ليست مجرد مشهد احتجاجي أو مناطحة عنيدة لآلة الاحتلال والاستبداد.. إنها مشروع الحياة في مواجهة مشروع الموت، وهذا يتطلب تجند المثقفين الأحرار والسياسيين الوطنيين في مشروع المقاومة الشاملة لاجتثاث جذور "نبتة الموت"، وكشف برامج الترويض الممنهجة وتعرية الزيف والخداع وسد المنافذ على عصابات السطو المساومين بأوجاع المقاومين.
مشروع المقاومة اليوم قد بدأ يتجاوز سِماتِ القُطرية والقومية والدينية ليتحول إلى مشروع كوني في مواجهة "كونية التوحش"، وهذا يحتاج جهدا إضافيا من المنظمات الإنسانية والأحزاب الحية والمثقفين الأحرار والإعلاميين المرابطين لترسيخ هذا الانشطار الكوني على معادلة واضحة: "الإنسانية في مواجهة التوحش".
إن الحرية لا دين لها بل إنها دين الإنسانية، وإن الظلم لا وطن له بل إنه وطن الظالمين.
نحتاج ثورة فلسفية في معاني "الحياة" و"الموت" حتى لا يظن الماشون العائشون بأنهم "أحياء"، وحتى نكشف أن ما نناله من بعض حرية وكرامة وانتصار إنما هو من انبعاث روح "شهداء الحياة"، أعني: الشهداء الأحياء.
حتى لا يكون دمُ الشهداء إرثا مُشاعا للاستثمار السياسي لا بد من الكشف عن معان أساسية:
أولا: إن المقاومة منهج في التصدي للمغتصبين وحلفائهم، منهج صادر عن عقيدة وعن تصور للحياة وللإنسان وللثقافة وللوطن والأمة.. منهج تربوي وسلوكي وعلائقي.
ثانيا: إن الذين أبدوا صمودا صادما في مواجهة مشاريع الموت في الحرب الأخيرة ضد الاحتلال لم يكونوا إلا أبناء عقيدة دافقة بمعاني الحياة وبقيم الشجاعة والصبر والإيثار والعزة والكرامة.. شباب وشيوخ وأطفال ونساء ينبتون كما الحياة، يقهرون الموت بآلاته المتطورة وبقوته الاقتصادية وبحلفائه "الحداثيين" جدا من العرب والعجم والإفرنج وبأجهزته الاستخباراتية المعقدة.
ثالثا: المقاومون أولئك لم يكونوا أصدقاء للاستبداد الدولي ولمنظري الاغتراب الحضاري، حتى يتقاسموا معهم أفراح النصر أو حتى يصدقوهم إذا ما زعموا احتفالا بـالمقاومين، ولم يكونوا غافلين عما اقترفه أولئك من اشتراك متعدد الوسائل في الحرب على الهاتفين بالحياة لأمة ما زلنا نعتقد أنها ذات تاريخ مقاوم.
رابعا: من يسمح لنفسه بالاحتفال بالمقاومة مساءلة النفس تلك إن كانت صادرة عن نفس الماء مع المنتفضين على سواطير الجلادين والمغتصبين والمستبدين، وكل المشتركين في سفك الدماء والفساد في الأرض.
ولكن ما جدوى الاحتفال بـ"حدث" والسخرية من مُحدثيه بما هم عقيدة وتصور ومنهج حياة؟ ذاك هو الاستثمار السياسي يحب الناس غافلين وجراحُهم لم تبرد.. المستثمرون أولئك لا يخجلون حين يتقدمون لدم الشهداء يتبركون به قبل المواسم الانتخابية.. يستثمرون في الشهداء أحياء وأمواتا، يشتركون في الحرب عليهم ثم يسارعون لتلقف بوادر انتصارهم على الغزاة.
المستثمرون أولئك يجهرون بثقافة مسمومة يغرون بها المراهقات والمراهقين، يزينون لهم "حرية" مسخ أنفسهم وإفساد طبيعة خلقهم، يُجرّئونهم على العارفين وعلى أجدادهم، يُحرضونهم على العقوق وعلى الفوضى وعلى اللغو.
المستثمرون أولئك يحتفلون بانتصار دم على سيف هم بعض حديده ولون صديده، يذكرون الأمة والأرض والعدو، لا يقدرون على تحديد المفاهيم ولا على تسمية المُسميات بأسمائها.. لا يُشيرون باتهام إلى متهم أو لشريك في جريمة.. يحتفلون كما لو أنهم "إخوة يوسف"، ظنوه في الجُب فإذا هو يطلع عليهم معززا بالنصر وبرعاية من الله لطيفة.. احتفال لا يخرج عن كونه جزءا من المؤامرة.. مؤامرة لها أطرافها وفلسفتها وأساليبها ومواقيتها.
هم حريصون على تبريد وهج المقاومة في الروح وفي الفكرة وفي سواعد الشباب وقلوب الجماهير.. يحتفلون باهتين وباردين ومرتبكين، يصدقون كونهم ليسوا صادقين، يبثون خطابات هي أشبه ما تكون بـ"الهجمات العاطفية" لأسر ما أمكن من البسطاء ومن الغافلين وفاقدي الأهلية السياسية والأيديولوجية.. أولئك منهج وأداء وفكرة وكوارث وليسوا مجرد ألقاب متشابهة. يجب البحث عنهم في الفكرة والخطاب وفي الرسوم والنصوص وفي السلام الداهن، وفي القُبلات العضوضة في العقول العالقة وفي "الثورة" الجبانة، في الصمت وفي الأساليب المخاتلة.
المقاومون لا يغفلون ولا تؤتى رؤيتهم من مداخل المتخاذلين، دم الشهداء يحرس الفكرة ويوقد الشموع في ظلمة يسدلها "ظلاميون" وضالون لا يكفون عن لعن الظلمة، وهم قاعدون يلوون أعناقهم إلى حيث ومض البرق يكاد يخطف أبصارهم، لا يمشون إلا قليلا وكثيرا ما يقعدون.
المقاومون لا يُسلمون بوصلتهم لأحد، وليسوا معنيين بمجابهة الكاذبين بكذبهم وهم يعرفونهم ليلة ليلة وجحرا جحرا.
twitter.com/bahriarfaoui1