مللنا للأمانة من كثرة الحديث عن انتخابات السلطة الفلسطينية، فنحن نكتب عنها يوميا عبر "تويتر" و"الفيسبوك"، ولكن تجميع بعض الأفكار عنها في سياق واحد يبقى مهما، لمن لا يتابع الكتابة المتقطعة عنها.
هي مهزلة سياسية بامتياز، وللأسف شاركت فيها كل الفصائل، بما في ذلك "حماس" التي دخلت مستنقع "أوسلو" في 2006، وكذلك "الجهاد" التي رفضت المشاركة سابقا وحاليا، ولكنها تمضي في ذات السبيل، ولا تسأل بعد ذلك عن فصائل أكثرها بلا وزن، وتفرح إذا دعيت إلى لقاء هنا أو هناك، يذكّرها بأنها لا تزال ذات حضور في المشهد.
مهما شرّقنا وغرّبنا في الحديث عن الملف الفلسطيني، فلا بد أن نعود إلى كارثة "أوسلو"، والسلطة الخادمة للاحتلال التي أنشأها، ومن ثم إدراك عرفات رحمه الله، لحجم الكارثة بعد مفاوضات "كامب ديفيد"، صيف العام 2000، وذهابه في اتجاه تبني المقاومة (انتفاضة الأقصى)، على أمل تحسين فرص التفاوض.
هذا الموقف كلّفه حياته بكل تأكيد. نقول ذلك، ونحن ممن اختلفوا معه جذريا قبل ذلك، وبخاصة حين وقّع اتفاق "أوسلو".
المصيبة أن الصهاينة ومن ساعدوهم، عثروا على رجلين، وقفا ضد الرجل، وضد إجماع كل الشعب الفلسطيني على برنامج المقاومة في "انتفاضة الأقصى"، وهما من هيئا الأجواء لاغتياله، ثم تاجرا بدمه بعد ذلك، دون أن يصلا حد البحث الجدي عن المتورطين باغتياله.
التقى عباس ودحلان وأسسا السلطة الجديدة بعد 2004، فكانت العودة غير الميمونة لبرنامج سلطة "أوسلو" الحامي للاحتلال، بجانب برنامج اقتصادي صاغه "بلير"، وعنوانه إعادة تشكيل الوعي الفلسطيني على البرنامج الجديد، وبعيدا عن خيار المقاومة.
ولأن "فتح" قبيلة، تبايع قائدها أيا كان، فقد انسجمت مع القائد الجديد، ونسيت هجاءها المرّ له حين تم استخدامه ضد عرفات
ولأن "فتح" قبيلة، تبايع قائدها أيا كان، فقد انسجمت مع القائد الجديد، ونسيت هجاءها المرّ له حين تم استخدامه ضد عرفات. وحين جاء الحسم العسكري في 2007، وجد عباس فرصته لتجييش "القبيلة" ضد عدو جديد (حماس) بدل مواجهة الاحتلال.
في غزة تورّطت "حماس"، ولكنها صنعت قاعدة للمقاومة، وخاضت حروبا بطولية، غير أن ذلك كله لم يغيّر في حقيقة أن الجمع بين السلطة والمقاومة شبه مستحيل، وهذا هو الجانب الأهم في موافقتها على الانتخابات الجديدة، تحت ضغط بعض الدول الداعمة، وعلى أمل التخلص من أعباء إدارة السكان، وتوفير احتياجاتهم، بجانب تحسين وضع فرعها في الضفة الغربية، والذي دمّره استهداف الاحتلال وأجهزة السلطة، بجانب إدارة داخلية بائسة، لم تغادر موقعها إلى الآن.
نفتح قوسا كي نجيب على سؤال البديل الذي يردده البعض، وهو ماذا لو لم تدخل "حماس" انتخابات 2006؟ والجواب هو ذات سيناريو رفضها لانتخابات 1996، ممثلا في منح الشعب الفلسطيني فرصة لعباس كي يجرّب مسارا معروف النهاية، ومن ثم العودة لخيار المقاومة من جديد، بدل تجييش "فتح" وراءه ضد الحركة (حماس) بدل الاحتلال.
لا نريد أن تطول هذه السطور، أو نكرر ما سبق وقلناه مرارا في مقالات وسياقات أخرى، لكن السؤال الأكبر يتعلق بنوايا من أداروا مشهدها، وماذا يريدون.
في خلفية الزفّة، هناك شخصان، الأول هو عباس الذي لا يريد من الانتخابات سوى تجديد شرعيته، ومن ثم المضي في مساره البائس الذي لن يغيّره (هذه المرّة مع بايدن)، أي التعويل على المفاوضات ورفض المقاومة، وتجريب المجرّب. والمصيبة أنه سيُنتخب رئيسا لدولة فلسطين، بحسب مرسوم الانتخابات، وليس للسلطة، أي أنه يمثل الشتات أيضا، وإن دون استشارته!!
جبريل الرجوب الذي يأمل أن تفضي هذه المسيرة إلى جعله الخليفة القادم لعباس الذي بات في السادسة والثمانين من العمر، وفي وضع صحي صعب، رغم المكابرة.
أين القضية من هذا المسار؟
لا وجود لها في واقع الحال، فالانتخابات في ظل الاحتلال تمثل مهزلة من الأساس، إذ أي ديمقراطية هذه التي تكون في ظل سلطة لا تملك من أمرها شيئا، ويمكن للمحتل أن يتحكّم بها وبمؤسساتها كيف يشاء؟!
من المهازل أن اتفاق الفصائل قرر وضع بدائل لمن يُعتقلون من أعضاء المجلس التشريعي، ما يعني أن كل عضو يُعتقل سيكون له بديل من نفس الفصيل، والنتيجة أن المحتلين هم سيحددون الأسماء كما يريدون؛ وبالطبع تبعا لموقفهم السياسي.
المجلس أصلا لن يكون مهما، فالنظام رئاسي. ولو قرر المجلس التشريعي برمته تغيير المسار، فلن يخضع له عباس، فكيف وأكثر من نصفه، سيكون للقبيلة الحزبية التي يتحكّم بها، بخاصة أن الحديث يجري عن قائمة موحّدة بغالبية لـ"فتح"، فيما يعلم الجميع أن هذا الخيار سيكون من أجل قطع الطريق على مخطط "دحلان" الذي يملك فرصة الحصول على نسبة ما عبر الأموال التي ضخّها، بخاصة في قطاع غزة، وحضوره القوي في فرع "فتح" هناك، مع حضور محدود في الضفة الغربية.
حتى منظمة التحرير التي يتم الحديث عن انتخابات تالية لمجلسها الوطني بمشاركة "حماس"؛ لن تتغير منظومتها من حيث سيطرة "فتح" عليها، لا سيما أن عباس سيتحجّج بصعوبة إجراء انتخابات للشتات الفلسطيني في أماكن تواجده، وسيتم ترتيب الأمر بالتوافق أيضا.
أسئلة كثيرة تالية من بينها سؤال السلاح في قطاع غزة، والذي سترفض "حماس" و"الجهاد" تسليمه أيا تكن نتيجة الانتخابات، ولا يعرف كيف سيتصرف عباس حياله.
النتيجة أن الكل يهرب من الأسئلة الشائكة المتعلق بتطورات القضية ومصيرها، ووحده عباس هو من يعرف ماذا يريد شخصيا؛ بجانب جبريل الرجوب الذي يمهّد للخلافة. أما "حماس"، ففي تيه واضح، والسبب أن ما يجري يمثل نتيجة طبيعية للخطأ الأول بخوض انتخابات "أوسلو" والاعتراف بسلطته، والأخطاء الكبرى لها تداعياتها دائما.
يبقى التعويل على الشعب الفلسطيني وانفجاره في وجه المحتلين وأذنابهم؛ إلى جانب تطورات إقليمية ودولية، ربما بعد غياب عباس، بما يسمح بتغيير المسار، والعودة لخيار الشعوب الحرة في مواجهة الاحتلال، ممثلا في المقاومة.