ما من مسلم في العالم إلا ويتمنى أن تزول الخلافات وتترمم العلاقات بين الدول الإسلامية، وتُضمد الجراح الساخنة وتلتئم في الجسد الإسلامي؛ كي يعود لعافيته ويصبح بنياناً قوياً صلباً يستطيع مجابهة التحديات الكبرى التي فُرضت عليه، لمواجهة أعداء الأمة الذين يتربصون بها في كل بقاع الأرض، ولن يحدث هذا إلا إذا توحد قادة تلك الدول الإسلامية على قاعدة الأهداف الكبرى للأمة، كحد أدنى للتفاهم، دون الدخول في التفاصيل والتي غالبا ما تدخلها الشياطين، وإعادة تعريف الصديق والعدو من جديد، بعد أن ضاع المعنى في غمرة الصراع المجنون والتنافس المحموم والشرس بينهم لنيل راية زعامة الأمة، فعميت أبصارهم وبصيرتهم، وبدلاً من أن يتسلمها أحد منهم تسلمها عدو لهم، وأذاق الأمة كأس الذل والهوان!!
أخص هنا قادة الدول الإسلامية، لأن الشعوب الإسلامية تعرف أهداف الأمة جيداً ولم يتزعزع إيمانها قط بمبادئها، ولا تحتاج لتعريف جديد يحدد لها الصديق من العدو!
أقول هذا بمناسبة الأنباء المتدولة هذه الأيام عن صلح وشيك بين تركيا ومصر من جهة، وتركيا والسعودية من جهة أخرى، وعودة العلاقات الطبيعية بينهم..
بالنسبة للجانب المصري، فلقد بدأت أنقرة بإرسال إشارات ودودة للقاهرة في الأشهر الأخيرة، قابلها كلام طيب من الجانب المصري، لم يصل بعد لحد المودة، ولكنها تصريحات ومواقف إيجابية تجاه الجانب التركي، ولعل آخرها مراعاة مصالح تركيا في الإعلان المصري عن مناقصة للتنقيب عن الطاقة الهيدروكربونية؛ حيث يُؤخذ بعين الاعتبار الحدود الجنوبية للجرف التركي المشار إليه في الاتفاق التركي الليبي..
وكان طبيعيا أن ترحب تركيا بتلك الخطوة على لسان مسؤوليها، فوزير الدفاع "خلوصي أكار" أثنى عليها، وأكد أنه يصب في صالح حقوق الشعب المصري. وهذه حقيقة لا لبس فيها، لأن الاتفاق "التركي الليبي" يمنح مصر، مساحة بحرية تبلغ 11 ألفا و500 كيلومتر مربع في البحر المتوسط، وهي أكبر بكثير من المساحة التي وفرتها لها اتفاقية "القاهرة- أثينا"، لذلك فزعت أثينا من هذا الموقف المصري الجديد، الذي ربما يؤشر لإمكانية توقيع مذكرة تفاهم بين القاهرة وأنقرة في المدى المنظور، لترسيم حدود مناطق الصلاحية البحرية بينهما في شرق المتوسط. ففيها مصلحة مشتركة للبلدين، إذ ستمنحهما مساحات أوسع، بخلاف النفوذ الجيوسياسي القوي؛ لأن البلدين لديهما أطول سواحل في شرق البحر الأبيض المتوسط، بعكس اتفاق "القاهرة- أثينا" الذي يضر البلدين (تركيا ومصر)، لصالح اليونان..
ولذلك نرى الهياج اليوناني على أشده، فإذا ما تمت تلك الاتفاقية التي لاحت بوادرها تظهر في الأفق؛ فستكون بمثابة ضربة موجعة لها، وهي التي بذلت جهداً كبيراً مع فرنسا وغيرها لإقصاء تركيا عن شرق المتوسط، ولذلك ستواصل مساعيها (أو لنقل مؤامراتها) لمنع توقيعها؛ لهذا سارع رئيس الوزاء اليوناني بالاتصال بالرئيس المصري، وهرع وزير خارجيته إلى القاهرة للقاء نظيره المصري. ولا ندري بالضبط ما الذي دار في تلك الاتصالات، فنحن لا نعير اهتماما لتلك التصريحات الدبلوماسية التي تعقب اجتماعات المسؤولين، ولكننا نقرأ ما بين سطورها، والذي يقول إن القاهرة لن تغير موقفها تجاه شرق المتوسط، وربما تتأخر الاتفاقية لبعض الوقت لإعادة ترتيب الأوراق؛ والخروج بدبلوماسية من اصطفافاتها السابقة مع دول إقليمية تربطها علاقات وثيقة باليونان، وتحرض ضد تركيا..
أعتقد أن مصر ستغلب المصلحة الوطنية على الصراعات البائسة والاصطفافات الإقليمية؛ التي قزمت دور مصر التاريخي في المنطقة. لقد ودعت سياسة "كيد النسا" التي كانت تنتهجها مع أنقرة، والتي جعلتها توقع اتفاقية مع اليونان تغبن حقها في البحر المتوسط؛ نكاية في تركيا. هذا زمن ولى مع تغيرات دولية، وتحالفات إقليمية جديدة..
لقد ذكر وزير خارجية تركيا "مولود تشاووش"، أنه يمكن التفاوض مع مصر لرسم الحدود البحرية، بناء على سير العلاقات بين البلدين، وهو منذ أشهر قليلة يلمح بالتصريحات عن اتصالات مع مصر على المستوى الاستخباراتي، إضافة إلى الحوار على المستوى الدبلوماسي لتعزيز العلاقات بينهما، وهو ما أكده الرئيس رجب طيب أردوغان نفسه يوم الجمعة الماضي..
وجدير بالذكر أن وزيري الخارجية المصري والتركي اجتمعا العام الماضي، على هامش اجتماعات دولية، وأكدا فيه على ضرورة العمل على خارطة طريق بشأن عودة العلاقات بين البلدين..
وتأتي في هذا السياق أيضا التصريحات الودودة على لسان المتحدث الرسمي باسم رئاسة الجمهورية التركية "إبراهيم كالن"، لشبكة "بلومبرغ"، أن "مصر قلب العالم العربي وعقله، ولديها دور مهم في المنطقة". وأضاف أنه "يمكن فتح صفحة جديدة في علاقات تركيا مع مصر وعدد من دول الخليج للإسهام في إرساء السلام والاستقرار الإقليميين"..
نستطيع أن نستنتج من كل ما سبق أن هناك مفاوضات ومباحثات تجري بين الجانبين المصري والتركي، من وراء الكواليس. وفي حقيقة الأمر، لقد بدأت منذ أيلول/ سبتمبر عام 2019 على المستوى الاستخباراتي، بطلب من مصر، كما أوردت صحيفة "أكشام" التركية. وهي معلومات لم ينفها الجانب المصري، ما يدل على أن التصريحات الحالية للمسؤولين الأتراك لم تأت من فراغ، بل هي حصيلة أو نتاج ما يقرب من عامين ونصف من التفاهمات والتقارب بين البلدين.
على كل حال، لقد ساهم هذا التفاهم قبل إعلانه في حل كثير من الأزمات الساخنة في المنطقة، لعل أهمها على الإطلاق الأزمة الليبية وإنهاء الحرب الأهلية في البلاد، على الرغم من أن كلتا الدولتين كانتا على طرفي نقيض في الأزمة. فمصر مع المحور الذي يدعم الجنرال المنقلب خليفة حفتر، وتركيا تدعم الحكومة الشرعية المعترف بها دولياً، ولكنهما استطاعتا أن توقفا تلك الحرب التي استمرت ست سنوات، وإنقاذ ليبيا من التقسيم، وتحققا هدفاً مشتركاً لهما. ولا جدال في أن تشكيل الحكومة الانتقالية بأسماء من طرفي الصراع؛ ساهم بشكل كبير وفعال في مسار العلاقات التركية المصرية.
وطبقاً لسياسة ما يطلقون عليها "دبلوماسية الباب الخلفي"، يتم حاليا ترتيب الأوضاع، وتلميع الوجوه، وتنميق الكلمات، لتخرج بعدها المصالحة إلى العلن، في حلة جميلة خالية من الثقوب، تبهر وتسعد جمهور البلدين، وتنسيهم الثوب الممزق. وأغلب ظني أن تلك الحلة ستزين بلقاء بين رئيسي البلدين، ربما على هامش اجتماع دولي، أو نحو ذلك. ولقد ألمح الرئيس أردوغان، الجمعة الماضية، لإمكانية حدوث ذلك، بقوله: "نريد أن تستمر هذه الاتصالات على مستوى، وإذا وصلت إلى نتائج إيجابية سنقوم بتقويتها ورفع مستواها". إذن الإخراج مستمر إلى أن تصل الحلية لهذا المستوى الرفيع، ولا نعرف كم من الوقت ستستغرق، وإن كنا نتمنى ألا تطول..
لقد كانت هذه الحلة في كامل بهائها وجمالها، بعد ثورة كانون الثاني/ يناير 2011، وجاء انقلاب تموز/ يوليو عام 2013 ليمزقها كلية، إذ أن تركيا ومن موقفها المبدئي والأخلاقي، وقفت موقفاً حاسماً ضد الانقلاب، رافضة الاعتراف به، وعزل الرئيس المنتخب عبر انقلاب عسكري. فتركيا عانت كثيراً من مرارة الانقلابات العسكرية طوال القرن الماضي، وتدرك تماما أن تلك الانقلابات العسكرية تكون وراءها دول خارجية، تلحق الأذى بالبلاد والعباد، لذلك فهي ضد الانقلابات العسكرية بصفة عامة ومناهضة لها، ليس في مصر فقط، بل موقفها هذا ثابت مع كل البلدان التي حدثت فيها انقلابات عسكرية. وخير دليل على صحة ذلك موقفها مؤخراً من محاولة الانقلاب العسكري في أرمينيا، على الرغم من أن بين الدولتين عداوة وحروبا، آخرها ما حدث في كاراباخ، وكان في صالحها نجاح الانقلاب لتكمل به انتصارها..
علمنا التاريخ أنه لا صداقات دائمة ولا عداوات دائمة بين الدول، بل هناك مصالح دائمة، وما تُعرف بالسياسة الواقعية (البراجماتية) ما هي إلا ترجمة لتلك المقولة التي أطلقها تشرشل بعد الحرب العالمية الثانية.
لقد خسرت تركيا ومصر من تلك العلاقة المتوترة بين البلدين، ولا أقول القطيعة؛ لأنه في حقيقة الأمر لم تقطع العلاقات بينهما كلية، لكنها تأثرت سلباً بلا شك. فالعلاقات الاقتصادية والتجارية استمرت بين البلدين، وقد تندهش، عزيزي القارئ، عندما تعلم أن حجم الصادرات والواردات بين البلدين زاد في تلك الفترة الغابرة، رغم عدم تجديد الاتفاقيات التجارية بينهما بعد انتهاء صلاحيتها، ورغم الحملات الإعلامية الفاجرة والوقحة وغير المسؤولة التي يشنها الإعلام المصري ضد تركيا وأردوغان، من خلال فضائياته الكثيرة وصحفه العديدة وذبابه المتكاثر والمنتشر في مواقع التواصل الاجتماعي، والتي تراجعت كثيراً الآن، منذ ظهرت بشائر المصالحة، وهذه خطوة إيجابية من المؤكد ستتبعها خطوات إيجابية أخرى من الجانبين.
لا يمكن لكائن من كان أن يعاند التاريخ والجغرافيا، أو أن يمحو تأثيرهما في البنيان الإنساني والوجداني والفكري للشعوب. فمصر وتركيا تربطهما روابط وثيقة وعميقة منذ زمن بعيد، بدأت منذ حكم المماليك، والذين كانوا أصلاً أتراكا، وحكموا مصر والشام والعراق وأجزاء من الجزيرة العربية أكثر من قرنين ونصف قرن من الزمان، وانتهاءً بالعثمانيين، وكانت مصر تحكم كإيالة تابعة للدولة العثمانية لأكثر من ثلاثة قرون.. عززت تلك الفترة الطويلة من الوجود التركي في مصر؛ الروابط الاجتماعية بين المصريين والأتراك وقوتها، فكثير من المصريين ترجع أصولهم وأنسابهم إلى الأتراك، والعكس صحيح، وهذا يكشف مدى عمق الجذور التي تربط بين الشعبين؛ أن العلاقة بين مصر وتركيا، علاقة نسب ومصاهرة ودم يجري في عروق شعبيهما..
إنها جذور امتدت إلى اللسان المصري في لهجته العامية، التي احتوت على قدر كبير من الكلمات المأخوذة من اللغة التركية، وفي ما يتذوقه من طعام، حيث يشتمل المطبخ المصري على أشهى وألذ المأكولات التركية. ويكفي أن تذهب في جولة لشوارع مصر ومدنها، لتشاهد الآثار الفنية والمعمارية العثمانية والمملوكية الخلابة، وأسماء الشخصيات العثمانية التاريخية على شوارعها. ومن باب المكايدة الطفولية وحماقة الخصومة، تم حذف اسم الشارع الشهير "السلطان سليم الأول" بمنطقة الزيتون شرق القاهرة.
مصر وتركيا دولتان كبيرتان تتمتعان بقيم معنوية واجتماعية وثقافية مشتركة، نظراً للماضي المشترك والروابط التاريخية بينهما. ولقد عبر الرئيس أردوغان عن ذلك الجمعة الماضية، بقوله إن "الصداقة بين الشعبين المصري والتركي لن تكون مثل العلاقات بين الشعبين المصري واليوناني"..
لذلك سيسعد الشعبان المصري والتركي بهذه المصالحة والتي ستنعكس بشكل إيجابي على المنطقة بأسرها. ولعل وجود إدارة جديدة في البيت الأبيض وموقفها السلبي من كلتا الدولتين، وتغير سياساتها تجاه إيران عن إدارة ترامب؛ يكون عاملاً مساعداً لإسراع الخطى نحو إتمام المصالحة، كي تستطيعا مواجهة ما يخبئه لهما بايدن، والذي أرى أنه كان سبباً مهماً للتقارب بينهما، والإعلان عن تلك المفاوضات التي كانت تُجرى في الخفاء، بعيداً عن الأنظار..
لا شك أن مواقف بايدن الغاضبة والضاغطة على الدول تدفعها للتفاهم، على الحد الأدنى من المصالح المشتركة، لتقليل الخسائر، ففي المصائب يتوحد الخصوم..
twitter.com/amiraaboelfetou