سأجازف بالقول، إن الانقلاب
القادم في إسرائيل، أي إذا تمت هزيمة نتنياهو، وتشكلت حكومة إسرائيلية من حزب ساعر
وحزب لابيد، وحزب ليبرمان بالإضافة إلى حزب العمل و»ميرتس»، ومشروطة بالضرورة بدعم
القائمة المشتركة للحصول على الأغلبية التي تؤمّن مثل هذا التشكيل.. إذا تشكلت مثل
حكومة كهذه فإن الانقلاب القادم في إسرائيل هو انقلاب لمصلحة الصهيونية
«العلمانية»، وهو الحد الأقصى للتغيير القادم فيها.
لا يشكل هذا الانقلاب أي تغيير يذكر على صعيد
العملية السياسية، ولا حتى على صعيد فرص الذهاب نحو مفاوضات جديدة مع الجانب
الفلسطيني، كما لا يشكل أي تغيير يذكر على جبهة حقوق الشعب الفلسطيني كلها ولا على
صعيد المساواة، ولا حتى أي تطورات جوهرية في مجابهة العنصرية المنفلتة ضد أهلنا في
الداخل الفلسطيني.
بل إن الأمر من زوايا معينة يمكن أن ينطوي على
أخطار إضافية على كل هذه الحقوق إذا ما نظرنا إلى جبهة التحالف الإسرائيلي الجديد
لإسرائيل تحت حكم «الصهيونية العلمانية»، وإذا ما نظرنا إلى حتمية تحسين صورتها في
منطقة الإقليم، وفي العالم أيضا، بل وربما فك عزلتها في كثير من الأوساط الرسمية
والأهلية، وفي الكثير من المؤسسات والمنظمات الإقليمية والدولية.
التحالفات اللصيقة لإسرائيل المتطرفة تعتبر
بكل المقاييس تحالفات يمينية عنصرية ومتطرفة، كما هو حال تحالفاتها بالرئيس
البرازيلي أو الهندي، وكما كان الأمر مع ترامب والترامبية، ومع بعض الأوكار
الترامبية المبعثرة هنا وهناك.
من هنا بالذات فإن التحالف الإسرائيلي الخليجي
الذي دشنه ترامب كان بالفعل أحد أهم الاختراقات الاستراتيجية التي حققها اليمين
المتطرف في إسرائيل، حيث شكل هذا الاختراق تعويضا استراتيجيا لها عن حالة العزلة
النسبية التي كانت تعاني منها.
وفي الواقع فإن جزءا من إنجازاتنا على الصعيد
السياسي والدبلوماسي ما كان ليتحقق لنا، بهذه الدرجة، وأحيانا بهذه السهولة لولا
تطرف إسرائيل، ولولا أنها كانت على درجة سافرة من العنجهية والعنصرية، وعلى درجة
أعلى من التصادم المباشر مع القانون الدولي، ومع مجمل مواقف المجتمع الدولي وكل
مؤسساته القانونية والسياسية على حد سواء.
وخلاصة القول هنا سقوط حكومة التطرف اليميني
في إسرائيل، وهي حكومة مشدودة إلى أوتاد قوية من العنصرية المتأصلة بأيديولوجيا
الاستيطان والإقصاء والهوس الديني لعتاة الأحزاب الدينية والقومية.
لا نستطيع أن ننكر أبدا أننا قد أفدنا من
التطرف والعنصرية الإسرائيلية في معاركنا السياسية والدبلوماسية، ولا يمكننا أن
نتصور استمرار هذه الحالة في ظروف انزواء أو خروج أحزاب التطرف القومي والديني، أو
ابتعادها عن واجهة المشهد السياسي في إسرائيل.
التحالف الجديد في إسرائيل إذا تمكن من هزيمة
نتنياهو وأعوانه من الأحزاب الدينية، إضافة إلى حزب بينيت، والذي يمكن أن يقفز من
قارب نتنياهو في اللحظة الأخيرة، وينضم إلى هذا التحالف قد يقدم تنازلا صغيرا أو
ثانويا هناك بالنسبة لأهلنا في الداخل، وقد يذهب إلى صيغة «الانفصال» عن
الفلسطينيين لكن ليس قبل قضم ما لا يقل عن ثلث الضفة الغربية، بالإضافة إلى كامل
«القدس الكبرى» ليبقي الحل الوحيد المطروح علينا هو حكم ذاتي موسع الصلاحيات فيما
تبقى من ضم واستقطاع كحل نهائي للصراع.
هذا هو أقصى ما يمكن أن يطرحه هذا الحلف
الجديد في إسرائيل، وهذا هو الممكن الوحيد الذي يبقي على هذا التحالف، وذلك لأن
مثل هذا «الحل» يستجيب في الواقع لرؤية حزب العمل و»ميرتس» وكاحول لافان، ولابيد
في مسألة الانفصال عنا من جهة، ويستجيب لكل من ساعر وحتى لبينيت في مسألة القضم
والضم من جهة أخرى.
أما فيما يتعلق بالمعادلة السياسية الداخلية
في إسرائيل، فإن هذا، أو انقلابا كهذا يمكن أن يحدث تحولات كبيرة، وأن يؤسس لمرحلة
جديدة فيها.
الأهم هنا هو أن الأوضاع الاقتصادية الصعبة
التي خلفتها أزمة «كورونا»، والتصدعات الاجتماعية غير المسبوقة التي شهدتها
إسرائيل في السنوات الأخيرة، والأزمات السياسية المتلاحقة فيها، لم تعد تسمح
«بالدلع» السياسي، وهو دلع ابتزازي في جوهره، ولم يعد لا مقبولا، ولا محمولا من
قطاعات اجتماعية واسعة في إسرائيل قبول صرف الميزانيات الطائلة على امتيازات
الأحزاب الدينية وفسادها وطفيليتها الاحترافية، وذلك لأن هذه الطفيلية في الواقع
هي مهنة سياسية بكل الأبعاد والمقاييس.
هذه الأحزاب الدينية إذا خسرت ميزانياتها، أو
حتى تقلصت إلى درجة معينة ستدخل في أزمات مستعصية، وستنفجر بداخلها مشكلات لها أول
وليس لها آخر، وستبدأ قضايا داخلية بالتكشف عن وسائل صرف تلك الميزانيات، ومن
المرجّح أن تتشظى هذه الأحزاب، وتتحول إلى كتل سياسية صغيرة ومتناثرة، وليس
مستبعدا أبدا أن يتم من خلال الكنيست سن قوانين جديدة لإعادة هيكلة وتنظيم كامل
هذه الحالة النادرة على الصعيد الكوني كله.
لن تكون «المعركة» ـ إذا نشبت ـ بين التحالف
الجديد ـ إذا نجح ـ سهلة أو نزهة سياسية، وذلك لأن هذه الأحزاب لديها قاعدة
اجتماعية كبيرة، ومؤدلجة إلى أبعد الحدود، وهي تعي مصالحها جيدا، ولديها التبرير
«الديني» ليس فقط للنزول إلى الشارع، وليس لمجرد التظاهر والاحتجاج، وإنما لأن هذه
الأحزاب لديها الاستعدادية الكافية وربما الجاهزية للمجابهة بكل الوسائل والسبل،
وهي بكل تأكيد ستستخدم سطوة ونفوذ الحاخامات، وربما الأكثر تطرفا منهم، وهي لن
تتوانى عن تحويل المواجهات إلى مسارب العنف، بل ومحاولات قد تكون مدروسة لحرف هذه
المعركة وتوجيهها «قوميا» ودينيا.
ولأن نتنياهو ليس لديه من حلفاء مثابرين سوى
الأحزاب الدينية، ولأن الأحزاب الدينية ليس لها من حليف ثابت نسبيا سوى نتنياهو،
ولأنها تعرف ما ينتظرها من مواقف وتوجهات لدى معظم مكونات الحلف الجديد ـ إذا نجح
ـ فإنها ستستميت في الدفاع عن مصالحها، والتي تراها مع حزب «الليكود»، ومع نتنياهو
على وجه التحديد والخصوص فإنها لن تتردد بأن تغامر معه إلى نهاية اللعبة، بما في
ذلك مغامرات الحروب، والذهاب بحرف كامل مسار الحالة السياسية في إسرائيل.
أما لماذا يعتبر هذا الانقلاب انقلابا علمانيا
صهيونيا كبيرا فهو لأن حزب «الليكود» بدأ «بالتحرر» من «علمانيته» الملتبسة، وتحول
إلى حزب جديد ضاعت فيه الفواصل بين الديني والقومي منذ زمن بعيد.