السودان الذي يحاول جاهدا التعافي من أزماته الاقتصادية
والاندماج بالمجتمع الدولي بعد رفع اسمه من قوائم الإرهاب الأمريكية، يواجه اليوم
تنافسا بين القوى الدولية الكبرى.
فقد وصلت إلى ميناء بورتسودان على البحر الأحمر ثلاث سفن
حربية أمريكية وروسية خلال أيام معدودة.
الخرطوم رحبت بالسفينتين الأمريكيتين اللتين وصلتا مدينة
بورتسودان، في زيارة هي الأولى منذ عقود، بحسب السفارة الأمريكية في السودان.
ولدى استقباله المدمرة "ونستون تشيرتشل" في بورتسودان،
قال القائم بالأعمال الأمريكي برايان شوكان، الاثنين، إن "هذه الزيارة التاريخية
تظهر دعم الولايات المتحدة للانتقال الديمقراطي في السودان، ورغبتنا في عهد جديد من
التعاون والشراكة مع السودان".
وبدأت بالسودان في آب/ أغسطس 2019، فترة انتقالية تستمر
53 شهرا تنتهي بإجراء انتخابات مطلع 2024، ويتقاسم خلالها السلطة كل من الجيش وقوى
مدنية.
فيما قال الأميرال مايكل باز، مدير الشؤون البحرية في الأسطول
السادس الأمريكي: "جنبا إلى جنب مع حكومة السودان الانتقالية، بقيادة مدنيين،
نسعى لبناء شراكة بين قواتنا المسلحة"، وفق بيان للسفارة.
وأضاف باز: "في الأشهر القليلة الماضية فقط، شهدنا بالفعل
زيادة في الارتباطات العسكرية".
أما قائد قاعدة بورتسودان البحرية، العقيد ركن بحري إبراهيم
حماد، فقال خلال مراسم الاستقبال، إن هذه الزيارة جاءت بعد انقطاع دام أكثر من 30 عاما،
ولها أهمية كبيرة، وتمثل عودة للعلاقات الأمريكية السودانية في ما يتعلق بزيارات السفن
الحربية.
وفي 24 شباط/ فبراير الماضي، استقبلت بورتسودان سفينة النقل
السريع "كارسون سيتي"، وكانت "أول سفينة تابعة للبحرية الأمريكية تصل
السودان منذ عقود"، وفق بيان للسفارة الأمريكية.
فرقاطة روسية
وقبل يوم واحد من وصول الأمريكية "ونستون تشيرتشل"،
استقبل السودان، الأحد، الفرقاطة الروسية "أدميرال غريغوروفيتش"، وهي الأولى
من نوعها التي تصل إلى السودان.
وقال الجيش السوداني، في بيان الأحد، إن "زيارة السفينة
الروسية تعتبر واحدة من النشاطات المعتادة في العلاقات الدبلوماسية بين القوى البحرية
العالمية وتقليد متبع بين الجيوش".
وأضاف أن هذه السفينة هي أول سفينة حربية روسية تدخل ميناء
بورتسودان في تاريخ روسيا الحديث.
وذكرت وكالة الأنباء السودانية أن قيادة السفينة الروسية
أجرت مباحثات مع المسؤولين السودانيين حول تنفيذ الاتفاق بين موسكو والخرطوم بشأن إقامة
نقطة دعم لوجيستي للبحرية الروسية في السودان.
قاعدة عسكرية
اهتمام روسيا بالسودان يرى فيه محللون تأكيدا منها على أحقيتها
في المنطقة من خلال اتفاقية سابقة مع الخرطوم لإنشاء قاعدة عسكرية لوجستية.
ففي 2007، لم تتحمس موسكو لطلب الرئيس السوداني آنذاك، عمر
البشير (1989- 2019)، إنشاء قاعدة عسكرية روسية في السودان.
وسعت الخرطوم إلى تطوير قدراتها العسكرية عبر تعاونها مع
موسكو في ظل حصار أمريكي؛ جراء عقوبات فرضتها واشنطن على السودان، بالإضافة إلى إدراجه
في قائمة ما تعتبرها "دولا راعية للإرهاب" (1993- 2020).
لكن موسكو نشطت مؤخرا في الحديث عن اتفاقية وقعتها مع الخرطوم
لإقامة قاعدة عسكرية روسية شرق السودان على البحر الأحمر، فيما تعاملت الخرطوم مع
الأمر بالنفي، ثم الصمت.
وفي أيار/ مايو 2019، كشفت موسكو عن بنود اتفاقية مع الخرطوم،
لتسهيل دخول السفن الحربية إلى موانئ البلدين، بعد أن دخلت حيز التنفيذ.
وصادق الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، في 16 تشرين الثاني/
نوفمبر 2020، على إنشاء قاعدة بحرية روسية في السودان، قادرة على استيعاب سفن تعمل
بالطاقة النووية.
وبعد ثلاثة أيام، قال رئيس الأركان السوداني الفريق ركن محمد
عثمان الحسين: "حتى الآن ليس لدينا الاتفاق الكامل مع روسيا حول إنشاء قاعدة بحرية
في البحر الأحمر، لكن التعاون العسكري بيننا ممتد".
لكن في 9 كانون الأول/ ديسمبر 2020، نشرت الجريدة الرسمية
الروسية نص اتفاقية بين روسيا والسودان حول إقامة قاعدة تموين وصيانة للبحرية الروسية
على البحر الأحمر، بهدف "تعزيز السلام والأمن في المنطقة"، بحسب مقدمة الاتفاقية.
ونصت الاتفاقية على إقامة منشأة بحرية روسية قادرة على استقبال
سفن حربية تعمل بالطاقة النووية، واستيعاب 300 عسكري ومدني.
ويمكن لهذه القاعدة استقبال أربع سفن حربية في وقت واحد،
وستستخدم في عمليات الإصلاح وإعادة الإمداد والتموين لأفراد أطقم السفن الروسية.
زيارات أمريكية
وصول السفينتين الأمريكيتين إلى السودان جاء على خلفية تحسن
العلاقات بين البلدين مؤخرا بشكل ملحوظ.
ففي 25 كانون الثاني/ يناير الماضي، وصل نائب قائد القيادة
العسكرية الأمريكية لأفريقيا "أفريكوم"، أندرو يونغ، إلى الخرطوم، وبحث سبل
تعزيز العلاقات العسكرية بين البلدين.
وهذه أول زيارة لمسؤول عسكري أمريكي للخرطوم منذ أن رفعت
واشنطن في 23 تشرين الأول/ أكتوبر الماضي، عقوبات اقتصادية وسياسية كانت فرضتها على
السودان، لوجوده بقائمة "الدول الراعية للإرهاب".
ومنذ 1993، أدرجت واشنطن السودان في تلك القائمة، لاستضافته
آنذاك الزعيم الراحل لتنظيم "القاعدة"، أسامة بن لادن.
ساحة تنافس
وفق الخبير الاستراتيجي والعسكري، اللواء ركن متقاعد أمين
مجذوب، فإن زيارة السفينتين الأمريكيتين في هذا التوقيت للسودان تأتي في إطار التفاهمات
بين القيادة العسكرية السودانية وقيادة "أفريكوم"، خلال الزيارة الأخيرة
للخرطوم، حسب وكالة أنباء الأناضول التركية.
واستدرك: "لكن من الواضح أن هذه الزيارات هي رد على
المركز اللوجستي الروسي الذي أجازه البرلمان الروسي، وحتى الآن لم يتم الرد على هذا
الأمر من السلطات السودانية".
ورأى أن وصول السفينة الروسية "الأدميرال غريغوروفيتش"
إلى ميناء بورتسودان مخالف لعادات الزيارات؛ فالسفن تأتي للتدريب أو التزود بالوقود،
لكن السفينة الروسية مزودة بأجهزة استطلاع وإمكانية التصوير.
وتابع: "هذا الأمر يوضح أن الروس لديهم شكوك حول وصول
الأمريكان لساحل البحر الأحمر، وإمكانية أن يقيموا قواعد عسكرية بالتنسيق مع السلطات
السودانية".
وأردف أن "السودان، سواء رضي أم أبى، فقد أصبح ساحة تنافس
ومسرح عمليات للقوى العظمى، أمريكا وروسيا، وستكون الصين أيضا في هذا الصراع لوجودها
في الجزر الأريترية بالقرب من ميناء بورتسودان".
وزاد بأن الصراع سيكون أيضا على الموارد السودانية والتحالفات
القادمة مع الحكومة الانتقالية.
واستطرد: "وهذا يتطلب من الحكومة الانتقالية، بكل مكوناتها،
وضع مصلحة السودان نصب أعينها، حتى لا تجد نفسها أمام الأمر الواقع".
والسودان إحدى الدول المطلة على البحر الأحمر بساحل
يمتد على مسافة تتجاوز الـ700 كلم، بالإضافة إلى كل من مصر وجيبوتي والصومال وأريتريا
والسعودية والأردن واليمن.
ويعكس الصراع الأمريكي-الروسي على النفوذ في السودان رغبة
واشنطن وموسكو في تعزيز نفوذهما في القارة الأفريقية، التي تمثل مصدرا كبيرا للثروات
الطبيعية وسوقا ضخمة للسلاح.
ويقع السودان في منطقة تتسم بالاضطرابات بين القرن الأفريقي
والخليج وشمال أفريقيا، ما يمثل أهمية لمساعي كل من واشنطن وموسكو للحفاظ على مصالحهما
في تلك المناطق الحيوية.