تمر العربية السعودية في مرحلة قد تكون الأصعب خلال العقود الأخيرة، نظرا لنوعية الحصار العسكري والسياسي – الدبلوماسي الذي تعانيه. وكل هذا نتيجة غلبة القرار الفردي وطموح ولي العهد الأمير محمد بن سلمان، الذي تجاوز السقف المعقول إلى طموح طائش بدون بوصلة.
ومن خلال استعراض تاريخ عائلة آل سعود وتاريخ العربية السعودية، منذ وفاة المؤسس عبد العزيز آل سعود، يمكن اختصار الأزمات الكبرى التي واجهتها البلاد في المحطات التالية: عزل الملك سعود بن عبد العزيز خلال نوفمبر 1964 بعدما اشتد الخلاف داخل العائلة الملكية، وهدد تماسكها. وتتجلى المحطة الثانية في عملية اغتيال الملك فيصل بن عبد العزيز سنة 1975 على يد الأمير فيصل بن مساعد عبد العزيز. أما المحطة الثالثة فهي عملية اقتحام مكة سنة 1979 على يد مجموعة جهيمان العتيبي، التي وضعت أهلية العائلة الحاكمة على المحك. ولاحقا، شكّل الغزو العراقي للكويت سنة 1990 أكبر التحديات للسعودية والعائلة الحاكمة، بعدما تبين عجزها عن الدفاع عن أراضيها أمام أي مغامرة عسكرية لصدام حسين، واضطرت إلى الاستعانة بالحماية الأجنبية، وكانت الضربة قاسية من الناحية الرمزية.
وتوجد محطات أخرى لا ترقى إلى مستوى أزمة، تحمل طابع المنعطف مثل مشاركة سعوديين في التفجيرات الإرهابية يوم 11 سبتمبر، ثم تداعيات الربيع العربي. لكن ما تعيشه السعودية حاليا يعد منعطفا حقيقيا في تاريخ البلاد، ويحمل مفاجآت غير مرتقبة على البلاد، وعلى العائلة الحاكمة. والأزمة الحالية هي كوكتيل من الأزمات غير العادية وغير العابرة، بل تلك التي تترك بصمات خلال السنوات المقبلة، وتتجلى في تدهور صورة السعودية، كدولة حاضنة للتيار السني في مواجهة إيران، بعد الحرب في اليمن، ثم مستقبل ولي العهد في أعقاب تحميله المسؤولية السياسية والجنائية في مقتل الصحافي جمال خاشقجي، في القنصلية السعودية في إسطنبول في أكتوبر 2018، إضافة إلى الطموح الزائد لولي العهد محمد بن سلمان، وسعيه للتحول إلى ما يشبه بيسمارك أو نابليون العرب.
بعد قرابة ست سنوات من الحرب على اليمن، لم تحقق السعودية أي انتصار يذكر في مواجهتها للحوثيين، فقد انفرط عقد «عاصفة الحزم» بانسحاب دول مثل المغرب وقطر والأردن، وتنهمر بين الحين والآخر صواريخ على المدن السعوديةن في حين تتعرض الرياض لتهمة ارتكاب جرائم ضد الإنسانية بسبب سقوط أطفال ونساء وشيوخ في القصف ضد اليمنيين. لقد كشفت هذه الحرب أكبر مفارقة في التاريخ، الدولة الثالثة في الإنفاق العسكري بعد الولايات المتحدة والصين عاجزة عن إنهاء حرب مع حركة مسلحة، وعاجزة عن توفير الحماية لأجوائها، بل هي في حاجة للحماية العسكرية الغربية. وعليه، كانت الرياض تود من خلال هذ الحرب، تزعم الدول السنية كمقدمة لمواجهة إيران، وانتهى الأمر بها إلى الاعتماد على الحماية الغربية وأساسا الأمريكية.
وعلاقة بمستقبل ولي العهد محمد بن سلمان، لقد شكّل كشف الرئيس الأمريكي جو بايدن عن مضمون ملف الاستخبارات الأمريكية، حول اغتيال الصحافي جمال خاشقجي ضربة قوية لصورة من يفترض أنه الملك المستقبلي للبلاد، بعد والده الملك سلمان بن عبد العزيز. تسريب التقرير وتحميل المسؤولية لولي العهد، يعني في المقام الأول إغلاق أبواب الغرب أمام زيارات مستقبلية، حيث سيصبح منبوذا. وهذا قرار اتخذه الغرب سنة 2018 وكانت جريدة «القدس العربي» قد تناولته في مقال بعنوان «اغتيال خاشقجي يقوض مخطط الرياض، وزيارة ولي العهد إلى أي بلد أوروبي ستكون مستبعدة» («القدس العربي» 30 ديسمبر 2018).
وفي المقام الثاني، يعد الكشف عن التقرير رسالة واضحة للسعوديين، خاصة العائلة الملكية بأنه يستحسن اختيار ولي عهد آخر. في هذا الصدد، استفاد محمد بن سلمان من هيمنة التيار المسيحي – الصهيوني على مقاليد الحكم في البيت الأبيض بعد فوز الرئيس دونالد ترامب. وتقرب بن سلمان من الإنجيليين المتطرفين، الذي يؤمنون بإسرائيل الكبرى. وهذه الجماعة التي تمتلك بين الحين والآخر تأثيرا قويا على صناعة القرار، كما اتضح مع حقبة ترامب، تعتقد في روايات دينية يفترض أنها ستحدث في الشرق الأوسط، ولديها علاقة بعودة المسيح، وأن تعزيز نفوذ إسرائيل وهيمنتها ضروري، وبالتالي دعم كل من يقف إلى جانب إسرائيل، ولو من الديانة الإسلامية. ولكن هذا التيار يتراجع الآن أمام «الإستبلشمنت» الغربي الكلاسيكي، خاصة في الولايات المتحدة، وهذا الأخير يرفض بقاء محمد بن سلمان في السلطة. (مصير بن سلمان بين الصهيونية المسيحية والإستبلشمنت الغربي «القدس العربي» 12 نوفمبر 2018).
صناع القرار في الولايات المتحدة، من هيئات إدارة عسكرية واستخبارات ودبلوماسية، علاوة على التيار اليساري التقدمي المؤمن بالحريات في فريق بايدن لا يرغبون في استمرار محمد بن سلمان، لأنه يحمل صفة «الطيش السياسي الزائد» وقد يعرض منطقة الشرق الأوسط برمتها إلى الخطر، خاصة في ظل غياب توازن في المملكة السعودية، بعدما قضى ولي العهد على الأمراء. ويمكن تلخيص رؤية هذا التيار في: «رغم تراجع مصالح الولايات المتحدة في الشرق الأوسط، واهتمامها بالشرق الأقصى، تبقى السعودية بحكم الحرمين ووزنها النفطي دولة مركزية، لا يمكن نهائيا أن تسقط مستقبلا في يد روسيا أو الصين، وهنا تتجلى أهمية من سيتولى العرش». من الأخطاء التي لا يغفرها هذا التيار لولي العهد، هي عندما حاول استمالة روسيا بعد جريمة خاشقجي، وقرر شراء أسلحة روسية، من دون الأخذ بعين الاعتبار الحماية التي وفرتها الولايات المتحدة لهذا البلد العربي طيلة العقود السبعة الأخيرة.
ما تعيشه السعودية يكشف عن الواقع المرّ للحكام العرب، فقد تسلح ولي العهد السعودي بطموح زائد، وصل إلى مستوى الطيش السياسي، حيث لم يمتلك صورة واقعية عن حدوده وحدود السعودية كدولة. علاوة على تعاقده مع عشرات الخبراء الغربيين، الذين لم يفيدوه لا في اتخاذ القرارات السياسية الصائبة، ولا في القرارات الاقتصادية المناسبة.
(القدس العربي)