أُثيرت ضجّة مفتعلة في
انتقاد زيارة الأستاذ إسماعيل هنية رئيس المكتب السياسي لحركة حماس، ورئيس الوزراء
الأسبق للسلطة الفلسطينية عام 2006.
وذهب أصحاب الضجة إلى دهاليز
شتّى في تأويل الأهداف من هذه الزيارة. وبعضهم كاد يتحدث عمّا سيكون بعد هذه
الزيارة فلسطينيا ولبنانيا وعربيا، من مرحلة تاريخية جديدة تختلف عن كلّ ما سبقها.
وراح بعض المعلّقين
اللبنانيين والعرب يحمّلون الزيارة فوق ما تحتمل من أبعاد. أما بعض الفلسطينيين
ممّن أصبحوا خارج جبهة الرئيس محمود عباس وضد جبهة المقاومة الفلسطينية، وفي برزخ
حائر بين تأييد مشروع دونالد ترامب (صفقة القرن) وانحيازهم إلى الخط الأميركي
السابق لدونالد ترامب، فقد راحوا يهوّلون في خطورة الزيارة كأنّها نكبة فلسطين
الثانية، بعد نكبة عام 1949.
الذين يعرفون "البئر وغطاها"، بل
الذين يتابعون السياسة، من خلال الوقائع، بلا حاجة إلى "نظرية
المؤامرة"، راحوا يندهشون أيما اندهاش وهم يقرأون، أو يستمعون إلى تأويل
هؤلاء وهؤلاء من فلسطينيين وغيرهم.
وقد سأل بعضهم هل علينا أن
نكذب أعيننا، ونقلب أفهامنا، لنقبل بتأويل "نظرية مؤامرة" وهمية؟
الذي قرّر عمليا أن يُعقد
لقاء الأمناء العامين برئاسة محمود عباس، من خلال الفيديو كونفرانس في رام الله
وبيروت، كان محمود عبّاس نفسه. ولولا ذلك لما انعقد أصلا، لا في بيروت، ولا في غير
بيروت. فقد كان هذا اللقاء مطلب الأمناء العامّين خارج فلسطين، منذ بضع سنين، وزاد
إلحاحا خلال السنتين الماضيتين.
ولهذا، جاءت زيارة إسماعيل
هنية إلى لبنان من خلال هذا القرار، وعلى أن يكون في مقر منظمة التحرير الفلسطينية
الرسمي في بيروت.
صحيح أنّ زيارة إسماعيل هنية
بيروت، كانت من ضمن عواصم عدّة، كان من المرغوب في زيارتها. فجاءت المناسبة مع
انعقاد لقاء الأمناء العامّين في بيروت. فأين المؤامرة الجهنمية التي كانت وراء
هذه الزيارة، وكيف يمكن إدراج محمود عباس، ولو عمليا، فيها؟
طبعا، كان اللقاء بين إسماعيل هنية والوفد
المرافق له، مع الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصر الله، على رأس أولويات
الأستاذ هنية بعد إتمام مهمّة لقاء الأمناء العامّين الذي كان وراء الزيارة، كما
كان من أهداف الزيارة لقاءات عدّة مع مسؤولين وقادة لبنانيين من مختلف التوجّهات،
إذ حرصت "حماس"، ومن قبلها ممثلية فلسطين في لبنان على إقامة علاقات
متوازنة مع كلّ الأطياف اللبنانية، إن أمكن، إلّا مَن اختار موقفا سلبيا من
الفلسطينيين.
اللقاء بين هنية والسيد حسن نصر الله، كان
حارا وإيجابيا ودام لساعات عدّة. وكان في الحقيقة تتويجا لعلاقة تحالفية راسخة،
وليس تأسيسا للعلاقة. وإذا كانت العلاقة الشخصية تجعلها حميمية أكثر، بعد التلاقي
المباشر، إلّا أنّها بناء فوق بناء.
فأين المؤامرة التي جاءت بها
زيارة هنية إلى لبنان؟ وقد قامت العلاقات الأخوية والجهادية ضد العدو الصهيوني.
ولم يأتِ اللقاء الشخصي بجديد. ولو لم يتم لما تغيّر في الجوهر شيء، لا في السياسة
التحالفية، ولا في التنسيق وتعزيز العلاقات المتواصل، وهو ما كان مُعلنا من قبل
الطرفين.
وإذا قيل إنّ اللقاء حمل
تحديا لأميركا والكيان الصهيوني، فالتحدي قبله كان قائما ومعلنا وعلى أشدّه، من
حماس وحزب الله، ولم يزده اللقاء الشخصي تحديا إلّا تحدّيا راكم فوق تحديات. فأين
المؤامرة وأين المشكلة؟
على أنّ البُعد الذي أغاظ
ذلك الطرف الفلسطيني الذي أصبح على هامش الهامش، كانت زيارة إسماعيل هنية إلى
مخيّم عين الحلوة، وما حظي به من استقبال جماهيري لم يكن متوقّعا بما بلغه من
حشود، ومن رمزية، ومن شكل ومحتوى وهتافات.
المفاجأة هنا مفاجأتان. المفاجأة الأولى، ما
عبّرت عنه جماهير المخيّم، ولا سيما شبابه وشاباته (60-70% من السكان)، من روح
نضالية وقتالية كأننا عام 1970 بعد معركة الكرامة، وانطلاق الموجة الثانية من
الثورة الفلسطينية. هذه الحقيقة مدهشة حقا، ورائعة حقا، وذات مغزى أيّ مغزى.
بعد الثمانينيات، ولا سيما
بعد "اتفاق أوسلو"، وبسبب عوامل تعرية، وتهرئة، وإفساد، وتيئيس، وظلم
اجتماعي وسياسي في لبنان، وبسبب صراعات وانقسامات وانحرافات تعرّضت لها المخيّمات
الفلسطينية ولا سيما عين الحلوة، شاع أنّ وضع الشباب في خراب مريع: من طلب للهجرة،
وانتشار للمخدرات، وابتعاد عن الفصائل إلى تغلغل نَزعات متطرّفة، إلى ما هنالك من
أوصاف، تجعل المرء يقول: "لا حول ولا قوة إلاّ بالله" تماما كما لو كان
أمام موت، أو كارثة.
هذا كلّه تلقّى هزّة عنيفة،
وضربة فهم للوعي قاسية، وتطلّب أن يُعاد النظر في قراءة الواقع المتعدّد الأوجه،
والكثير الاشتباه، كما أعاد الثقة بأصالة الشعب، وبذلك الينبوع الثوري المتدفّق
بالشباب، جيلا بعد جيل. وكلّ جيل يأتي بعد جيلَي نكسة أو أكثر أو أقل يأتي بدماء
جديدة، وبوعي بثوابت القضية الفلسطينية متجدّد.
صحيح أنّ أجيال عدّة قد لا
تستطيع أن تشقّ طريقا أفسده من قبلها، وأصيب الوضع بالضعف والتبدّد والإحباط. فهي
مرحلة نكسة قد تطول أحيانا. ولكن لا بدّ من أن يبدأ الضباب بالانقشاع، أو يصل
الخراب إلى مداه، وتخور مقوّماته وقواه. فتنشأ موازين قوى جديدة، وجيل جديد وإذ
بالثورة تجدّد نفسها، وبروح المقاومة والتحدّي تعيد سيرتها الأولى، بالجوهر لا
بالشكل، وإن تشابهت الأشكال فنظنّ التاريخ يعيد نفسه.
والتاريخ لا يعيد نفسه فلكل
حقبة تاريخية سماتها. فعصر "فتح" والمقاومة الفلسطينية في عام 1970، غير
"حماس" و"الجهاد" والمقاومة في عام 2020، وإن بدا مخيّم عين
الحلوة في استقباله لإسماعيل هنية كأنّه كان يكرّر ما فات. ويجب أن يُعتبر أنّ
لكلّ فصائل المقاومة منه نصيبا.
المفاجأة الثانية: ما عبّرت
عنه جماهير المخيّم (عين الحلوة) يقول: لقد عدنا بحلّة جديدة، وبوعي مختلف،
ومعادلة موازين قوى جديدة لبنانيا، كما فلسطينيا، وعربيا، وإسلاميا، وعالميا. ما
رأيناه في عين الحلوة في زيارة إسماعيل هنية، يؤكّد أن مبادئ القضية الفلسطينية
والروح النضالية الجهادية القتالية، هي التي تجدّد الثورة، وهي من تُخرج الوضع من
الحُفرة، وهي من ترفع إلى موقع القيادة.
هنالك من يظنّ بأنّ هذا
التغيير حدث بسبب إهمال "فتح" وبعض فصائل منظمة التحرير الفلسطينية
للمخيّمات، فيما الذي يغيّر سلبا أو إيجابا، هبوطا أو صعودا، ليس الإهمال أو
الاهتمام، إنما الخط المبدئي، والخط السياسي، واستراتيجية مواجهة العدو (الممارسة
في الميدان). هذا ما يجب أن يُفهم من المفاجأة الثانية.
أما الذين أثاروا الضجّة
المفتعلة، فعليهم أن يعيدوا حساباتهم. فالزيارة لم يكن مخطّطا لها، لا من ناحية
الشكل ولا المحتوى، وجاءت لأغراض فلسطينية، لا لبنانية، والشعب في مخيّم عين
الحلوة هو الذي صنع المفاجأتين.
أما لقاء السيد حسن نصر الله
بإسماعيل هنية، فكان لأغراض فلسطينية استراتيجية لمواجهة العدو الصهيوني، وليس
لإقحام الفلسطينيين في الصراع الداخلي اللبناني ــــــ اللبناني. وهو ما يجب
لبنيامين نتنياهو وقيادة جيشه أن يحسبا لهذا اللقاء ألف حساب، وقد أسكرتهما الخمرة
الرديئة من يدَي محمد بن زايد وملك البحرين، أما من أثاروا زوبعة في فنجان فقد
غمسوا خارج الصحن.