رحل ناجي العلي بعد أن نهشه
رصاص غادر في مثل هذه الأيام، 29 آب (أغسطس) 1987، ويُعتقد أنه وُلد في العام
1937، قبل عقد من النكبة الفلسطينية تقريبا. وبذلك يكون قد عاش 50 سنة. ولم تكن
تلك الفترة التي عاشها ناجي سهلة. بل العكس تماما. كانت تجربة ذلك الجيل من الفلسطينيين
من أصعب التجارب الإنسانية في البؤس والإذلال وشظف العيش على الإطلاق. فبأي معنى
يمكن أن يكون ناجي العلي محظوظا؟
حقق ناجي نفسه وحضوره في العالم كفنان ومناضل
من خلال رسوماته التي صنعت له جمهورا كبيرا وخلّدته في الذاكرة العربية
والإنسانية. وبالنسبة لأي فنان أو مفكر أو مبدع، فإن عمله وتأثيره يعنيان ما
يعنيان فقط إذا وصل إلى جمهور مهتم. وفي حالة الرسم الكاريكاتوري، فإن وسيلة
إيصاله هي الصحف والمجلات في الأساس، بشرط وجود مساحات ناجية لحرية التعبير هنا
وهناك.
بالإضافة إلى ذلك، كانت الفترة التي عاش فيها
ناجي العلي مجالا لتفاعلات وتجاذبات، وانتصارات وهزائم، وحوارات واشتباكات. ولم
تكن حصيلة تفاعلاتها تراجعا صرفا؛ كانت فيها نهضة عربية فكرية واجتماعية، وأفكار
وأيديولوجيات تقدمية تزاحِم على حيز في المجال العام وتنافس على تفضيلات الأفراد.
وكانت هناك حالة ثورة، من أجل فلسطين ومن أجل تقدم الإنسان العربي. وحتى مع كل
الشد العكسي، كان هناك شعور بإمكانية التغيير والتحرر والإيمان بجدوى العمل. وقد
شكل ذلك أطرا حاضنة، ثقافية وأيديولوجية، تخفف شعور الفرد بالوحدة والعزلة وتزوده
بحس من الحماية.
كل ذلك تغيّر الآن. منذ عقود، تذهب أحوال
المنطقة في اتجاه واحد، انحداري. وربما كان أول منعطف هابط، والذي عايشه ناجي وحرض
سخطه، هو معاهدة كامب ديفيد التي بدأت تطبيع العدو في المنطقة وحرمت قضية فلسطين
والعرب من ظهير أساسي. ومنذ ذلك الحين، لم تر المنطقة نورا واحدا في العتمة
المطبقة، وانعكست وجهة النهضة العربية وكسبت كل القوى والأفكار الرجعية أرضية كل
الوقت.
وفي أول التسعينيات، بعد وقت قصير من استشهاد
ناجي، جعلت تداعيات قضية العراق والكويت الكثير من المثقفين يقترحون أن أفضل ما
يستطيعه الفرد في الواقع الجديد هو مجرد الكفاح للحفاظ على نظافته الداخلية،
والصمت. واختار آخرون التوقف عن معاندة التيار الجارف وتغيير الوجهات.
منذ ذلك الحين، تراجعت الحريات والمساحات،
وانفضت التجمعات والأطر، وهُزمت الأيديولوجيات والمشاريع التقدمية. وفي المقابل،
ترسخت القوى المتصلبة بحيث بات من المستحيل زحزحتها، وذوى الأمل وتوالت الهزائم.
والثورة الفلسطينية، التي شكلت مرة طليعة حركة التحرر العربية، فقدت بالتدريج
حضورها وأدواتها ولم تعد جاذبة بعد أن أصبحت تشهد هزيمة تلو أخرى. وفي هذه
المناخات، انسحبت إلى الظلال أي محاولات تغييرية كانت تحتال لحجز مكان تحت الشمس.
لو عاش ناجي العلي هذه الأيام، ربما لم يكن
ليجد صحيفة أو مجلة تنشر رسومه، لأن الكل خائفون ومراقبون. وربما كان الإحباط
الطاغي الذي يطبق على المشهد والناس اليوم سيصيبه ويفري كبده ويضيّق موضوعاته.
وحتى لو أدرك وسائل التواصل الاجتماعية، التي سُوقت ذات مرة كفضاء واعد بديل من
أجل التعبير الحر، لكان قد اصطدم بالأسلاك الشائكة والممنوعات التي قيدت هذا
العالم وتتعقب سكانه فيه وتحاسبهم على ما يفعلون.
لو عاش ناجي الآن، لما وجد جمهورا مهتما
بالرؤية والاستماع والتأثر، وقد انفض الأغلبية عن الثقافة والسياسة والفن والفكر،
وأصبحوا يشككون في جدواها. ولو عاش، لرأى اليد الفلسطينية وهي تسقط البندقية وترفع
غصن زيتون ذابل بيدين مرتجفتين ولا يشتريه أحد. وبدلا من الخلافات الفصائلية
وتحريك الثوابت وتعالي القيادة التي كان ينتقدها، كان سيرى حرب «فتح» و»حماس»،
وخديعة «أوسلو» وما جرّته على الفلسطينيين، والاعترافات المتوالية بحق الكيان
الغاصب في امتلاك معظم فلسطين. ولرأى الحائط الذي كان يسند ظهر الفلسطينيين وهو
يتداعى قطعة في إثر قطعة.
من حسن حظ ناجي العلي أنه سقط في عز الاشتباك
وهو يتأهب للمعركة التالية التي تُخاض مع احتمال الانتصار. ولم يدرك هذا الوقت
المهزوم، الذي يموت فيه المحاربون الذين أصبحوا كلهم قدامى، في أسرتهم يا أمجاد،
«كما يموت البعير».