أخبار ثقافية

الكندي: فيلسوف العرب الأول

أبو يوسف الكندي - تعبيرية

لم يكن له معلمون يتتلمذ عليهم كما هو حال جميع المفكرين والعلماء، ولم تسعفنا كتب التاريخ أيضا بذكر تلاميذ تتلمذوا على يديه، فيما تواضع المفكرون والمؤرخون على اعتباره فيلسوف العرب، كونه أول شخص من أصول عربية كتب بالفلسفة.

وهذا لا يعني أن المناخ التاريخي في عصره لم يكن زاخرا بالفكر، وأنه مثل حالة فريدة آنذاك، بل على العكس، فقد عاش الكندي في بغداد حيث كانت مفعمة بالحركة العلمية والترجمات، ومن معاصريه جابر بن حيان 721- 813م وقسطا بن لوقا 820- 912م وثابت بن قرة 836- 901م وغيرهم.

كما أنه كان جزءا من حركة الاعتزال التي اشتهرت باعتماد العقل في محاربة المعادين للدين الإسلامي، لكن اعتباره الفيلسوف العربي الإسلامي الأول، يعود إلى أنه أول من بحث في المعرفة كنسق فلسفي.

هو أبو يوسف يعقوب بن إسحاق بن الصباح بن عمران بن إسماعيل بن محمد بن الأشعث بن قيس الكندي توفي عام 873م، شريف الأصل من الكوفة، كان جده كما ذكر ابن جلجل ولي الولايات في الكوفة أيام الخليفتين المهدي والرشيد.

يقول أبو سليمان السجستاني إن الكندي أول من تخرج من المسلمين في الفلسفة وسائر أجزائها، وفي الرياضيات وما يتعلق بها، وعلى ذلك ذهب صاعد الأندلسي وابن أبي أصيبعة.

ويتفق ابن النديم وابن جلجل وابن أبي أصيبعة على أن الكندي نقل كتاب بطليموس في الجغرافيا إلى العربية، وقد أيدت البحوث الحديثة هذا الرأي، فقال ماسينيون إن الفضل يرجع إلى الكندي في تحرير جملة من التراجم العربية لمصنفات يونانية في الفلسفة.

الكندي والبخل


اشتهر الكندي بالبخل، وربما يكون هذا في تقديرنا السبب الذي جعله يرفض أن يكون له تلاميذ، لما قد يحمله ذلك من تبعات مادية.

من نوادره وكلامه في البخل، كان يقول من شرف البخل أنك تقول: لا، ورأسك مرفوع إلى فوق، ومن ذل العطاء، أنك تقول: نعم، ورأسك إلى أسفل.

وكان يقول: سماع الغناء علة حادة، لأن الإنسان يسمع فيطرب، فينفق فيسرف، فيندم فيغتم، فيقتل فيموت. 

وقال عمر بن ميمون، تناولت الغداء يوما عند الكندي، فدخل جار له، فدعوته إلى الطعام، فقال الرجل: والله تغديت، فقال الكندي: ما بعد الله شيء، فكتفه تكتيفا، لأنه لو أراد أن يأكل معه لكان قد نكث بيمينه. 

ومن وصيته لولده: يا بني كن مع الناس كلاعب شطرنج، تحفظ شيئك، وتأخذ من شيئهم، فإن مالك إذا خرج من يديك لم يعد إليك، واعلم أن الدينار محموم، فإذا صرفته مات، واعلم أنه ليس شيء أسرع فناء من الدينار إذا كسر، والقرطاس إذا نشر، ومثل الدرهم كمثل الطير الذي هو لك ما دام في يدك، فإذا طار عنك صار إلى غيرك.

وتحدث الجاحظ 776- 868م في كتابه "البخلاء" عن بخل الكندي، فقال:

فقد  جعله غنيا يملك دُورا للكراء، ويشترط
علـى السكان أن يكون له رَوْثُ الدبة، وبعَرُ 
الشـاة ونَشـوان العَلـوفة، وألاَّ يُلقُوا عظْما،
ولا يُخرجــوا كُسـاحةً، وأن يكــون لـه نــَوى
التمْر، وقشـور الرمان، والغَرْفة من كل قِدْرٍ
تُطبَخُ للحُبلى في بيته".

الكندي والمعتزلة

كان الكندي جزءا من حلقة الاعتزال، فاستخدم الأدلة العقلية للدفاع عن العقائد الدينية، وكان في مقدمة الذين ردوا على المانوية والنصارى، وكتب في ذلك رسائل عدة، ثم كتب في حدوث العالم.

وشيئا فشيئا بدأت يختلط علم الكلام بالفلسفة ليس عند الكندي فحسب، بل عند كل أئمة المعتزلة، لكن الكندي كما يقول هنري كوربان في كتابه "تاريخ الفلسفة الإسلامية" لم يكن كواحد من علماء الكلام، فقد كان مدفوعا في كتاباته بدافع التوفيق الأساسي بين البحث الفلسفي والوحي النبوي.

ويرى كوربان أن الكندي تأثر كثيرا بـ حنا فيلوبون المعروف بـ يحيى النحوي، ضاما رأيه إلى رأي فالزر.

أما ديبور، فإن كان قد اعتبر أن الكندي كان عالما جامعا، فإنه اعتبر أيضا أنه لم يكن عبقرية خلاقة، وآراؤه اللاهوتية تحمل طابعا معتزليا. 

إلى مثل هذا يذهب حسين مروة في كتابه "النزعات المادية في الفلسفة العربية الإسلامية"، عندما بدأ حديثه عن الكندي بأنه ليس الفيلسوف العربي الأول، ولا هو مؤسس الفلسفة العربية، لأن أساس الفلسفة العربية بني قبل ذلك على يد المعتزلة.

لكن مروة يعترف بالجديد الذي جاء به الكندي، ويعتبر أن أساس هذا الجديد يجب النظر إليه في البنى التحتية، أي الظروف الاجتماعية التاريخية التي أنتجت الكندي، إنها الضرورة التاريخية التي اقتضت استقلال الفلسفة عن الفكر اللاهوتي في تلك المرحلة.

لم تكن ثمة قطيعة معرفية كاملة بين الكندي وعلم الكلام، لكن جميع الباحثين اتفقوا على وجود قطيعة، لأن الكندى تجاوز الإشكالية الكلامية إلى الإشكالية الفلسفية.


الكندي والفلسفة

لم يتردد الكندي في مهاجمة خصوم الفلسفة في عصره وتبيان قصورهم في إدراك حقيقتها التي هي أعلى الصناعات الإنسانية منزلة وأشرفها مرتبة، وقال في ذلك:

ولضيق فطنهم عن أساليب الحق ولدرانة
الحسـد المتمكن مـن أنفسهـم البهيميـة،
ووضعهــم ذوي الفضـائل الإنسـانية التي
قصروا عـن نيلها.. وهـم عدماء الـدين، لأن
من تجـر بشـيء باعه، ومـن بـاع شيء لم
يكن له، فمن تجر بالـدين لم يكـن له ديـن.

كانت المهمة الأولى للكندي هي التوفيق بين العقل والنقل / الدين والفلسفة، لأنه لم يكن يرى ثمة تعارض بين ما جاء به الدين وما جاءت به الفلسفة، وهي العملية التي ظلت مستمرة عند فلاسفة الإسلام، غير أن هذا التوفيق سيأخذ بعد الكندي منحى آخر مختلف تماما مع الفارابي وابن سينا في نظريتهما حول الفيض.

لكن، مع الكندي بدأت أول عملية لتأسيس نسق معرفي مبني على أسس عقلية، فكانت المعرفة عنده هي علم الأشياء بحقائقها، ولا يمكن العلم بحقائق الأشياء من غير معرفة عللها، والفلسفة الأولى كما عرفها الكندي هي علم الحق الأول الذي هو علة كل حق، والعلل والمطالب أربعة:

كل علة إما أن تكون عنصرا وإما صورة
وإما فاعلة وإما متممة.

بعبارة أخرى، العلل هي: العلة الهيولانية (مادة الشيء) والعلة الصورية (صورة الشيء) والعلة الفاعلية (ما منه مبدأ الحركة) والعلة الغائية (ما من أجله كان الشيء)، أما المطالب العلمية فهي أربعة أيضا: 

ـ السؤال عن آنية الشيء يعني هل هو موجود بإطلاق.
ـ السؤال عن ماهية الشيء، يعني ما هو؟ 
ـ السؤال عن أي الأشياء هو؟ 
ـ السؤال عن غاية الشيء، يعني لم هو؟

ويرى الكندي أن الوجود الإنساني على نوعين، وجود حسي ووجود عقلي: الأول تبدأ المعرفة به من خلال إدراك الحواس للمحسوسات، وهذه الحاسة هي أقرب منا وأبعد عن الطبيعة، والثاني، المعرفة العقلية، فتحصل عبر مبادئ فطرية في العقل يضاف إليها معقولات كلية من الخارج، وهكذا، فالمعاني العقلية هي تجريد يقوم به العقل وتعميم للمعطيات الحسية.

غير أن المسألة التي شغلت الكندي كثيرا هي مسألة حدوث العالم، حيث عمل بجهد لإثبات ذلك، بخلاف الفلاسفة اللاحقون عليه (الفارابي، ابن سينا) ممن تحدثوا بالفيض، كصيغة وسط بين قدم العالم وبين حدوثه من العدم، أي خلقه وفقا للعقيدة الإسلامية.

يقر الكندي أن الله واحد بالحقيقة وما عداه فوحدته عرضية، ويرى أن كل ما ندركه لا يخلو أن يكون، إما واحدا أو كثيرا، أو واحدا وكثيرا معا، أو بعض هذه الأشياء واحد لا كثير بتة، أو بعضها كثيرا لا واحدا بتة، ثم ينتهي إلى أن الأشياء لا تكون كثرة فقط ولا وحدة فقط، بل هي وحدة وكثرة معا.

بعد ذلك ينتقل الكندي لإثبات تناهي الجرم أو الجسم، أي أن للأجسام بداية ونهاية وأنها مخلوقة من العدم، وهو يستخدم في ذلك برهان الخُلف، أي بدلا من إثبات تناهي الجسم منطقيا، يلجأ إلى تبيان تهافت نقيضه، فإذا ثبت أن الجسم لا يمكن أن يكون لا متناهيا، فيلزم ذلك منطقيا أن متناه.

يقول في رسائله:

أي جرم هـو إمـا متناه أو لا متنـاه، فلـو فرضنـا
أنه لا متناه وفصلنا منه بالوهـم جرما متناهـي
العظم، فإن الباقي إما أن يكون متناهيا أو غير
متناه،فإن كان الباقي متناهـي العظم فإنه إذا
زيد عليه ما أخذ منه كان الجرم المتكون عنهما 
متناهـي العظم، ولكن الجرم قبـل الفصل كان
لا متنـاهي العظم بالفرض وهـو كذلك لا متناه 
العظم.


وهــذا الجـرم الـذي فرضنــا أنـه ليس بمتنـاه هــو 
متناه لا متنـاه، وهذا خلف لا يمكن، وإن كان الـذي
بقــي من الجـرم غيـر متنـاه فإنـه إذا زيـد عليه ما 
اقتطعنـاه صـار أعظم ممـا كـان قبـل أن يزاد عليه
أو مسـاويا لـه، فإن كـان أعظم ممـا كان صار ما لا
نهــاية له أعظـم ممـا لا نهـاية له، وهـذا بخـــــلاف
المقدمة الثامنة، وأيضا صـار الأقـل منهما متنـاهيا
لأن مـا لا يتنـاهـى لا يكـون أقـل ممـا لا يتنــاهـى، 
ويكون اللامتنـاهي متنـاهيا وهذا خلف أيضــا، وإن
كان مساويا له فقد زيد على جرم جرم وهذا خلف
لا يمكـن، فقـد تبين أنـه لا يمكـن أن يكـون جـرم لا
نهاية له.

الأخلاق

الفضائل الإنسانية هي الخلق الإنساني المحمود، وهي على نوعين: أحدهما في النفس والآخر مما يحيط بدن الإنسان من الآثار الكائنة عن النفس.

أما القسم الكائن في النفس فهي على ثلاثة أقسام:

ـ الحكمة، وهي فضيلة القوة النطقية وهي علم الأشياء الكلية بحقائقها.
ـ النجدة، وهي فضيلة القوة الغلبية، وهي الاستهانة بالموت في أخذ ما يجب أخذه ودفع ما يجب دفعه.
ـ العفة، وهي تناول الأشياء التي يجب تناولها لتربية أبدانها وحفظها بعد التمام.

ويقسم الكندي قوى النفس إلى ثلاثة أقسام:

ـ قوة غضبية تتحرك على الإنسان في بعض الأوقات.
ـ قوة عقلية تمنع الغضب.
ـ قوة شهوانية.

وأقوى الناس هو من أمات شهوته وذلل غضبه بحيث ينال به الحق ويدفع الباطل، غير مكترث في ذلك بالموت، وإن أحكم الناس هو أعرفهم بنفسه وأشدهم احتمالا للأدوية الصعبة التي ترفع انتقامها، وإن أعدل الناس من لزم الحق وعمل به، وإن أعف الناس من عدل في شهواته.