يتناول الفنّ الكثير من الأشياء الماديّة والمعنويّة المألوفة حولنا ولا نلقي لها في العادة بالا في واقع الحياة الفعليّ، فتظهر في الأعمال الفنيّة والأدبيّة ممتعةً وفريدةً وكأننا نراها بشكلٍ حقيقيّ للمرّة الأولى أو ندركها على الأقلّ بهذا الشكل للمرّة الأولى.
فما الذي يحدث للأشياء في الفنّ؟ وما سبب اختلاف إدراكنا لهذه الأشياء في الفنّ عن إدراكنا لها في الواقع؟
إنّ معظم ما يتلقّاه إدراكنا للأشياء من حولنا يقع في دائرة الاعتياد بسبب تكرار تلقّي الحواس للموجودات حولنا، فتصبح عمليّة التلقّي نفسها عمليّةً آليّة غير واعية.
وينسحب هذا على كثير من ممارسات الإنسان وأفعاله ورؤيته لما حوله وعمليّات التواصل مع الآخرين، ففي العادة تكون المرّة الأولى ذات طبيعة خاصّة وسمات مميّزة، لكن التكرار يحيل الأمر إلى العاديّ وغير الممتع؛ فالاعتياد يقتل كلّ ما يحيط بالإنسان، حتّى على مستوى إحساساته الرئيسة كالخوف من أمور بعينها والشوق لأخرى والحبّ لشخصٍ ما.
يطرح المنظّر الروسيّ الشهير "فيكتور شكلوفسكي" في كتابه "الفنّ بوصفه تقنيّةً" مفهوم "التغريب" (Defamiliarisation) ليفسّر دور الفنّ في تغيير النظرة الإنسانيّة للوجود وللموجودات فيه ليسترجع الإنسانُ الإحساسَ الفطريّ بالأشياء وليتجاوز عن معرفته بها التي تعطّل عمليّة الإدراك من جديد، وتمنع التفكير بها بطريقة خاصة؛ "فالفنّ يجدد الإدراك البشريّ بإيجاد الأدوات التي تجتثّ وتقوّض أساس أشكال الإدراك المعتادة والآليّة".
ويفعل الفنّ ذلك من خلال "تغريب" الأشياء عن شكلها المألوف في الأحوال التلقائيّة للإدراك؛ إنّ الفنّ يُظهرها بطريقة ووضعيّة خاصّة تضاعف وجودها وتجعلها أصعب من الوضع الحقيقيّ والواقعيّ، وحين يكون الإدراك للشيء أصعب يستغرق وقتا أطول، فتكون عمليّة الإدراك نفسها جزءا من الجمال أو التقنية الفنيّة، لذلك يعدّ طول الإدراك لها زيادة في المتعة. وبذلك فإن "الفنّ سبيلٌ لاختبار فنيّة الشيء، أمّا الشيء نفسه فليس بذي قيمة..".
الفنّ يخلق مسافة بيننا وبين الأشياء، فتبدو بعيدة ونحتاج أن نتعرّف عليها من جديد، ويقطع وقوفنا التلقائيّ والمتكرر عندها.
تكرار الرؤية يلغي القدرة على التعبير عمّا نراه، فليس هناك ما يستدعي التعبير في الأساس. ويستخدم الفنّ وسائل مختلفة للتجاوز عن تلك الاعتياديّة، منها على سبيل المثال ما يوظّفه تولستوي في روايته "العار" (Shame) من وصفٍ للأشياء العاديّة دون تسميتها، أو تأخير ذكر اسمها المألوف الذي يؤدّي ظهورُه إلى إلغاء الحاجة إلى الوصف المفصّل.
اقرأ أيضا: رواية ذهول ورعدة: خطر الماديّة على القيم الإنسانيّة
يصف تولستوي الجَلْد بالسوط ولا يذكر الاسم إلا بعد تفصيل ما يحدث في تلك العمليّة، وكأنّه يتعرّف على ذلك لأوّل مرّة: "تعرية الناس الذين انتهكوا حرمة القانون، قذفهم على الأرض، ضرب أقفائهم بالسياط"، ويعود ليسمّي تلك العمليّة بعد وصفها التفصيليّ، ويقارنها بغيرها من وسائل التعذيب فتظهر مضاعفة "الجلد على الأكفال المعرّاة"، ومن ثمّ يقول: "تماما لماذا هذه الوسيلة الغبيّة الفظّة للتعذيب، وليس أيّة طريقة أخرى – لِمَ لا تكون وخز الأكتاف أو أيّ جزء من الجسد بالإبر، عصر الأيدي أو الأقدام في ملزمة، أو أيّ شيء من هذا القبيل؟".
يهدف تولستوي إلى تغريب هذا النوع من التعذيب ومنعنا من التجاوز عنه بسرعة وسهولة، فيقدّمه على أنّه غير معروف ويبدأ بتعريفه بالتفصيل. إنّ هذا الوصف يُشعرنا بفداحة ذلك، ويحرّكنا نحوه بشكل خاصّ.
ومن الطرق التي يتبعها الفنّ للتغريب المبالغة في وصف الحدث أو الشعور أو الموقف الذي يتناوله، ويمكن أن يضاعف حجمه وحقيقته الواقعيّة أو الممكنة. فعلى سبيل المثال يقول المتنبي مخاطبا عضد الدولة البويهي:
أروحُ وقد ختمتَ على فؤادي // بحبِّكَ أن يحل به سواكا
وقد حمّلتني شكرا طويلا // ثقيلا لا أُطيقُ به حراكا
أحاذرُ أن يشقّ على المطايا // فلا تمشي بنا إلا سواكا
فما يضعه المتنبي في البيت الأوّل هو أنّه يحبّ عضد الدولة بشكل لا يحتمل معه حبّ أيّ شخص آخر، حتى كأنّ قلبه قد أُقفل من بعد حبّه، وهذه مبالغة للعاطفة المعروفة وهي أنّه يحبّ ذلك الرجل، لكنّه حين بالغ في وصفها جعل الحبّ له مختلفا عن حبّ الآخرين وصورة فريدة له، أي أنّه عمل على تغريب هذا الحبّ.
وكذلك الأمر في ما يتعلّق بالبيتين الثاني والثالث، فهو يبالغ في وصف الشكر الذي يوجّهه لعضد الدولة إلى الحدّ الذي لا يحتمل المتنبي ثقله على قلبه، ولا تحتمل مطيّته حمله على ظهرها فتتجه إلى مكان عضد الدولة أينما ارتحلت.
المتنبي يريد من هذا الوصف في نهاية المطاف أن يقول لعضد الدولة شكرا لك ولكن بطريقة لا مثيل لها، تفوق أشكال الشكر الأخرى، فأخرج هذا الشكر إخراجا غريبا وفريدا وكأنّ أحدا لم يصل إلى هذا الحدّ من الشكر من قبل.
ومن وسائل التغريب في الفنّ استخدام الصور في التعبير، والصور إحدى أكثر وسائل الفنّ أساسيّة، فالفنّ في أحد وجوهه التعبير في صور.
قد تكون الوظيفة الأساسيّة للصور تقديم المعنى بطريقة خاصّة، وجعلنا ندركه بشكل فريد، وربّما جعل ذلك المعنى أكثر تعقيدا من طبيعته عند تلقّينا الواقعيّ له، فيكون بحاجة إلى وقت أطول لندركه، ونفكّر فيه بشكل لا نفعله في العادة.
إنّ النجاح في اكتشاف الأشياء أو بعض خصائصها بطريقة غير معتادة من خلال الفنّ يكشف عن واحد من الأدوار التي يلعبها الفنّ في إيقاظ الحس الإنسانيّ وخلق الوعيّ وتوجيهه، لا سيّما حين يفعل ذلك بخفّة وسلاسة غير مصطنعة، فيكتشف المرءُ نفسَه ومن وما حوله ويعدّل نتيجة لذلك موقفه ومنظوره لنفسه وللوجود.