إذن هكذا هي النهاية، ثلاث أو أربع إطلاقات غادرة تكتب نهاية مروعة لهشام الهاشمي، الذي بكاه زملاء له وأصدقاء ظهروا على قنوات عدة، لم يكمل بعضهم حديثه. قد لا تكون شهادة قدر ما هي إجلاء لبعض خفايا علاقة ربطت كاتب هذه السطور بالهاشمي منذ عام 2005، حيث كانت دمشق مأوى للهاربين من موت الفجاءة على يد ممتهني القتل وحملة البنادق المستأجرة والكواتم الغادرة.
في حج نهاية 2006 كانت البداية الحقيقية
لمعرفة هشام عن قرب في رحلة ورفقة وإقامة وأداء مناسك كان هو مرشدي ومعلمي فيها،
ولن أزيد. لم يكن هشام يشبه أحدا في جدّه ومثابرته على التزود بالمعرفة، لكنه ليس
كغيره، كان هشام هشاما وكفى. كان هشام يبحث عن المعرفة من نبعها الأصلي وليس من
مسارات النهر أو مصباته.
أزعم أني كنت على بعض معرفة بفصيل يقاوم الاحتلال
الأمريكي، ولكن لست من رعاياه، كما هشام الذي كان منتميا لفصيل سلفي جهادي ما
ويتسنم منصبا فيه. لذا كان هشام الباحث المستجلي للحقيقة، من رواد منزلي، حيث كنت
أقيم، كنا نتبادل الأفكار والمعلومة، ونستقرأ المشهد العراقي بقلوب عامرة بالقلق
والخوف من ألا ينجو العراق من أنياب الميليشيات وفرق الموت والتطرف والإرهاب، وكل
ما في هذه الدائرة الخبيثة من بواعث القلق على مستقبل البلد.
كارهو هشام الذين تغيظهم نباهته، وسرعة بديهته
وعمق ما يقول، وقدرته على الإقناع بوجه بشوش، وابتسامة لا تفارقه، ليسوا أبناء هذه
الحقبة الغائمة، إنما هم ذاتهم بجلود وسحن مختلفة منذ أيام دمشق بين عامي 2005،
حيث حط رحاله فيها و2009 حيث غادرها قافلا إلى بغداد، معتقدا أنه من هناك سيخدم
بلدا أحبه.
التحول الأكبر في رحلة هشام القصيرة كانت بعد
عودته إلى بغداد تاركا دمشق، التي يحن إليها ويزورها بين حين وآخر. من بغداد كنا
على تواصل دائم يصوّر لي مشهدها الكئيب، وكيف أنه يحفر في صخر التناقضات برأس إبرة
علّه يجد خرما للنفاذ من خلاله إلى بر أمان، يدل عليه أصحاب القرار الذين بات
قريبا منهم ومقربا إليهم. كانت سنواته الأولى في بغداد هادئة إلى حد بعيد. التقيته
في بغداد عام 2013 في أحد مطاعم الكرادة، وتجولنا راجلين في أسواق المنطقة وجلسنا
في أكثر من مقهى.
كان هاتفه دائم الرنين من أرقام محفوظة في سجل اتصالاته وأخرى
غير محفوظة، لكنه كان يرد على الجميع بدون استثناء. سألته، أنت بتّ معروفا ولك
مواقفك من هذا الطرف، ومن ذاك، وحيث هي بغداد غابة متوحشة تشم رائحة دم المقتولين
غيلة، ألا تخاف على نفسك يا أبا مريم؟
قال، الكل يناديني أبا عيسى إلا أنت وقلة من
أحبتي، وكلما جاء اسم مريم على لساني أو سمعته من أحد ذكرتك في نفسي وتذكرتك، فلا
تقلق لكل أجل كتاب. نعم لكل أجل كتاب، كان يرددها كثيرا ويردد معها فـ»الله خير
حافظا وهو أرحم الراحمين»، وأحيانا قليلة كان يقول «كلمن يموت بيومه». لم يكن
معروفا كثيرا في وسائل الإعلام، ولم يكن ظهوره بتوجه محدد قد يغضب هذا الطرف أو
يرضي ذاك، إنما كان يتحدث بلغة تصعب على المتربصين رصد ما يسوؤهم.
كان التخندق واضحا بعد أحداث الموصل 2014،
وكان هشام مع العراق ضد الإرهاب، كان هذا جوابه لي في لقاء جمعني وإياه في إسطنبول
نهاية العام نفسه عندما سألته عما يحدث، وما ستؤول إليه الأمور، بعد سيطرة تنظيم
«الدولة» على الموصل وتشكيل التحالف الدولي. حتى هذا اللقاء، وكما في اغلب
اللقاءات السابقة أو الاتصال عبر وسائل مختلفة، لم تكن هناك تهديدات جدية، ولم تكن
ثمّة تهديدات مصدرها جهة عراقية مسلحة، كان يقول فقط جماعة التنظيم هم من يهددون،
لكن أنّى لهم أن يصلوا إلى بغداد.
لا أدري بالتحديد في أي سنة بدأت تصله التهديدات على حياته من جهات عراقية مسلحة، لكن الذي أذكره جيدا أنه في عام 2017 وفي اتصال هاتفي كنا تحدثنا بمزيد من التفصيل عن الحياة في تركيا والمعيشة فيها مشجعا إياه على القدوم إليها. المرة الأولى التي سمعت منه عن تهديدات تقلقه كانت خلال هذا الاتصال الهاتفي، إذ قال لي إنني للمرة الأولى أشعر بجدية عزمهم على تصفيتي، لكن من هم؟ قال جهات مسلحة متنفذة حليفة لإيران لم يذكرها بالاسم، ولم أشأ أن أساله خشية الإحراج.
لم ننقطع أبدا، بل كنا نتواصل باستمرار، يسألني وأساله عما يجري، لكننا لم نلتق ثانية إلا أواخر 2019 في أربيل حيث تواجدنا فيها معا مصادفة. التقينا خلالها أكثر من مرة وتناولنا معا الطعام أكثر من مرة، وكنا نتحدث كعادتنا عن العراق وسبل الخلاص وعن تعقيدات مشهده، وانسداد أفق الخروج من نفق «اللادولة» إلى فضاء دولة المؤسسات، وكان هذا همّه ومشروعه، الذي دفع حياته ثمنا له لمواقفه المناهضة لـ «اللادولة».
هذه المرة كان الحديث أكثر صراحة، كان يتحدث
عن تهديدات مصدرها «الفصائل الولائية»، كما يسميها ويحددها بأربعة فصائل، «كتائب
حزب الله العراق» و»عصائب أهل الحق» و»حركة النجباء»، ولا أتذكر الآن رابعهم.
كان قد قرر الإقامة الدائمة في أربيل، حيث عزم
على افتتاح فرع لأحد مراكز الأبحاث الأمريكية، واستحصل موافقات رسمية من حكومة
الإقليم، على أن تكون المباشرة بالعمل في مايو/أيار على أبعد تقدير، لكن كورونا
وانشغال الناس بها وتقييد حركتهم، كما قال لي أوائل يونيو/حزيران عندما سألته عن
مجيئه لأربيل.
هذه المرة كان خائفا «جدا» قال نعم لكل أجل
كتاب لكن كثرت التهديدات ولم تعد بين فترة وأخرى، بل أحيانا يومية أو شبه يومية.
قال جميع التهديدات كنت أنقلها للجهات المسؤولة في الحكومة، بكل تفاصيلها بما فيها
أرقام هواتفهم، وهي أرقام مسجلة على الشبكات العراقية.
لكن محادثة عبر الواتساب تبعها اتصال قبل أيام فقط، كان خلالها قلقا جدا على غير عادته، وقال هل تصدق إنهم يهددونني بأهل بيتي؟ قلت من هم؟ قال إنهم معروفون لي وللحكومة، هؤلاء من كتائب حزب الله العراقي، يريدون مني الابتعاد عن رئيس الحكومة، لأنه كما يقولون مسؤول عن مقتل قاسم سليماني. كان يخطط لنقل عائلته من بغداد أولا، ثم يلتحق بهم لينتقلوا معا إلى أربيل كمحطة أولى، استعجلته أن يفعل لكنه قال الأمر بحاجة إلى ترتيب، لان مداخل بغداد ومخارجها تحت أيديهم، كما قال رحمه الله ويعرفون الداخلين إليها والخارجين منها.
رحم الله هشاما..
(القدس العربي)