مع تجميد مباحثات حصول لبنان على مساعدات من صندوق النقد الدولي، انعطف البلد المأزوم اقتصاديا باتجاه الصين والعراق أو ما يصفه الإعلام اللبناني بـ"الشرق"، في محاولة لما أسمته الحكومة "مواجهة القرار بحصار البلد..".
والجمعة الماضية، قال وزير المال اللبناني غازي وزني لصحيفة "الجمهورية" إن محادثات لبنان مع صندوق النقد جُمدت في انتظار بدء إصلاحات اقتصادية، واتفاق الجانب اللبناني على مقاربة موحدة لحساب خسائر.
وبدأ لبنان محادثات مع الصندوق في
أيار/مايو الماضي، على أمل تدبير مساعدة لمعالجة الأزمة المالية التي تُعتبر أكبر تهديد
للبلاد منذ الحرب الأهلية التي دارت بين عامي 1975 و1990.
لكن العملية تعثرت بسبب نزاع بشأن حجم
الخسائر المالية التي نشأ حولها اختلاف بين الحكومة والمصرف المركزي وجمعية
المصارف ولجنة تقصي الحقائق بالبرلمان، حيث يميل الصندوق لتقديرات خطة التعافي
الحكومية (تقدر الخسائر بنحو 90 مليار دولار)، والتي تفوق التقييمات الأخرى بنحو الضعف.
اقرأ أيضا: FT: مصارف لبنان شريكة في صناعة الأزمة الاقتصادية بالبلاد
وتُتَّهم خطة الحكومة بأنها تُحمّل العبء الأكبر من الخسائر للقطاع المصرفي، لكن رئيس الوزراء حسان نفى أن يكون هدف حكومته "تركيع القطاع المصرفي"، وقال: "لن يدفع المودعون الثمن".
وفي ظل غياب الدعم الخارجي، يتعمق
انهيار الليرة اللبنانية، لتفقد 80 بالمئة من قيمتها منذ تشرين الأول/أكتوبر. ولا يزال نزيف
احتياطيات مصرف لبنان المركزي مستمرا. ودخل البلد في "تضخم مفرط"،
وزادت الاضطرابات الاجتماعية وانتشرت الجريمة.
وخلق توجه السلطات نحو "الشرق"
تباينا في آراء الخبراء السياسيين والاقتصاديين اللبنانيين، بين مؤيد يعتبره بحثا عن مخرج من الانهيار، ومن يعتبرها هروبا من إصلاحات واجبة لانتشال الاقتصاد.
"هروب من الإصلاحات"
يرى أستاذ العلوم السياسية بالجامعة اللبنانية، وليد صافي، أن التوجه للصين والعراق بمثابة
"هروب إلى الأمام"، ولا يعالج المشكلة الرئيسية بلبنان وهي "إجراء إصلاحات بنيوية في المالية العامة والاقتصاد، وهي نقطة جوهرية ركز عليها
صندوق النقد".
وفي حديثه لـ"عربي21"، يعتبر
صافي أن "الفشل كان من نصيب خطة الحكومة"، مستدلا باستقالة مدير عام
وزارة المالية آلان بيفاني بعد "اكتشاف لعبة التلاعب بالأرقام، ووجود نوايا تستهدف
ضرب النظام الاقتصادي الحر بلبنان، وضرب قطاع المصارف وهو القطاع الأساسي في
بنية الاقتصاد اللبناني".
وخلال شهر واحد استقال بيفاني ومستشار
وزارة المالية هنري شاوول، عضوا فريق التفاوض مع صندوق النقد، بسبب الخلاف على
تقدير "حجم الخسائر" في الخطة المقدمة للصندوق.
ويؤكد صافي: "بالإصلاحات تعود
الثقة إلى لبنان وتعود الاستثمارات وتتمكن المؤسسات المالية الدولية من تقديم
المساعدات.."، ويشدد "الإصلاح الهيكلي هو الحل المستدام للاقتصاد، وهو طريق الحصول على مساعدة صندوق النقد، وليعيد الحديث عن القروض التي تقررت بموجب مؤتمر سيدر عام 2018، والمقدرة بنحو 11 مليار دولار".
وأثار توجه لبنان للصين تساؤلات الأكاديمي
اللبناني، حيث قال: "هل الاستثمارات الصينية جاهزة لتباشر العمل بلبنان بدون
دراسة لجدواها، وبدون معرفة كم ستفتح من فرص عمل؟ وكم ستبلغ كلفة القروض التي
ستقدمها الصين للبنان؟".
وتابع: "هل لبنان يمثل موقعا
استراتيجيا بالنسبة للاستثمارات الصينية، وبالنسبة للخطة التي تقودها الصين منذ
عدة سنوات المعروفة بطريق الحرير، حتى تستثمر في البنى التحتية اللبنانية".
ومفضلا الاستمرار بمسار مفاوضات
صندوق النقد، قال صافي: "كلفة القروض التي تقدمها الصين للعديد من البلدان هي
كلفة عالية تتجاوز كلفة الفوائد على القروض من البنك الدولي وصندوق النقد".
ويعتبر صافي توجه الحكومة للصين "محاولة للضغط على الدول الغربية، كي تتراجع عن بعض الشروط المفروضة على تقديم القروض للبنان".
ويضيف: "محاولة التوجه للشرق
تؤدي لمزيد من الانخراط بلعبة المحاور التي عزلت لبنان عربيا ودوليا"،
دون أن يستبعد "وجود تأثيرات للعقوبات الأمريكية على إيران وسوريا على الأزمة بلبنان".
لكن التساؤل بالنسبة لصافي "هل
لبنان يشكل موقعا استراتيجيا في العلاقات الدولية كي يلعب على وتر العلاقات مع
الصين والعراق مقابل الدول الغربية والولايات المتحدة؟". ليجيب: "لبنان
غير قادر على إدارة مثل هذه اللعبة".
ويعتبر أن "الدول الكبرى لديها
إمكانات هائلة في مساعدة أو منع مساعدة الاقتصاد اللبناني. هذه لعبة سياسية متهورة
بلا أي نتيجة".
اقرأ أيضا: التليغراف: نذر انهيار اقتصادي بلبنان مع توقف سبل الإنقاذ
ويحتاج لبنان كل عام لأكثر من 5 مليارات دولار كي يتمكن على مدى أربع إلى خمس سنوات من إعادة الدورة الاقتصادية إلى حياتها الطبيعية، والسيطرة على العجز في المالية العامة ومواجهة أزمة السيولة بالدولار، حسب ما قاله الأكاديمي اللبناني.
واعتبر لجوء الحكومة اللبنانية للتبادل
التجاري مع العراق سواء مقابل السلع الغذائية أو الدفع وفق آجال تريحها "اعترافا ضمنيا من الحكومة أن لبنان مقبل على وضع كارثي يشبه المجاعة، وعدم
قدرة الدولة على تأمين الحاجات الأساسية التي تتعلق بالنفط والمواد الأساسية
والأدوية".
وينفي صافي أن يكون تعثر لبنان بالمفاوضات
مع صندوق النقد واللجوء إلى "الشرق" ردة فعل على شروط لها طابع سياسي، ويقول: "الفشل أتى من خلاف حول رؤية
الإصلاح ومن الأرقام المتناقضة بمؤسسات الدولة، ونتيجة خطة الحكومة التي هدفت لضرب
القطاع المصرفي وإصلاح عجز المالية العامة من خلال السيطرة على ودائع اللبنانيين
وقسم غير قليل من رجال الأعمال العرب الذين أودعوا أموالهم في المصارف اللبنانية".
"التعاون مع الشرق"
في المقابل، عبّر الخبير الاقتصادي ميشال
مرقص عن تفاؤله بتوجه الحكومة نحو العراق والصين لتعزيز التعاون الاقتصادي والتجاري
بينهما.
وفي ذات الوقت، يستبعد مرقص أن التوجه الجديد ناجم عن تعثر المفاوضات مع صندوق النقد، بل هي في سياق بحث لبنان عن
مخرج لأزماته الاقتصادية، ويقول: "التعاون مع الشرق من الطروحات المطروحة منذ
زمن خصوصا بعد إعلان الصين عن استكمال طريق الحرير، ولبنان دولة من الدول التي تمر
به هذه الطريق".
وخلال حديثه لـ"عربي21"، يوضح
الخبير الاقتصادي: "الحكومة اللبنانية لا تطلب مساعدات عينية مالية من
الصين، إنما هي تعرض مشاريع بنى تحتية (توليد كهرباء، سكك حديد، إنشاء أنفاق...) لم
تعد قادرة على أن تنفق عليها من أموال عائدات الخزينة".
أما عن مسار الإصلاح الاقتصادي، فيرى مرقص أنه "مطلب داخلي ووطني، وأمام ما تواجهه البلاد من تظاهرات تطالب بالإصلاح لم يعد بإمكان أي حكومة أن تستمر بدون أن تنفذ الإصلاحات".
ولا يؤيد الخبير الاقتصادي أن يكون توجه الحكومة للشرق
"هروبا من الإصلاحات"، و"ما يقال هو اتهام من قبل المعارضة، ومن لا يريد الخير للبنان.." على حد تعبيره.
وحول إن كان التوجه للصين سيثير غضب
الولايات المتحدة وبالتالي يمنع مساعدة صندوق النقد، يرد مرقص: "الولايات المتحدة تتمتع بعلاقات اقتصادية
وتجارية جيدة مع الصين، لماذا مسموح لها التعامل مباشرة مع الصين، وليس مسموحا لأي
دولة أخرى أن تتعامل معها؟".
ويضيف: "في العولمة لم يعد هناك
حواجز، أما إذا أرادت الولايات المتحدة أن تقف بوجه دولة صغيرة وأن تستقوي عليها فهذا يعد ظلما، ولا يعتبر منفعة لمصلحة هذا البلد أو ذاك".
اقرأ أيضا: مصرف لبنان يبيع الدولار بأكثر من ضعف سعره الرسمي
ويرى الخبير الاقتصادي أن المشاريع
الصينية بلبنان ستخفف من انهيار
العملة المحلية، ويوضح "إذا استثمرت الصين في مشاريع لبنانية
فإنها ستدفع بعملة صعبة للداخل، أو لو جاءت بفريق عمل صيني فسوف يستهلك
بالسوق اللبناني بالعملة الصعبة، أو إذا استعانت باليد العاملة اللبنانية فسنستفيد من دخول العملة الصعبة".
ويؤكد على أهمية العلاقة التجارية بين لبنان والصين، ويقول: "منذ 15 سنة كان الميزان التجاري للبنان يميل لصالح
الولايات المتحدة والدول الغربية، أما الآن ففي عام 2018 كان استيرادنا من الصين
بقيمة 2 مليار من 19 مليار دولار أي أكثر من 10 بالمئة، بينما لم يتجاوز مع
الولايات المتحدة أو ألمانيا أو إيطاليا أو فرنسا 1.5 مليار دولار".
ومن ناحية العراق، يوضح: "بالسنوات الأخيرة بات الميزان التجاري فائضا لصالح لبنان بينما كان العراق قبل نحو
ربع قرن السوق التجاري الثاني للبنان".
وحول إن كان لبنان سيتجه للصين من
أجل الاقتراض تعويضا لفرصه الضائعة مع صندوق النقد، يفيد مرقص: "نحن أمام مساعدة معلنة من قطر والكويت، أما بالنسبة للاقتراض من الصين، أشك أن يفكر
لبنان بالاقتراض بشكل إضافي إلا تحت الاضطرار القوي".
ويختم "أعتقد أن لبنان سيلجأ لجدولة الديون المترتبة عليه مع الدائنين بما يريح الوضع الداخلي، ولا أعتقد أننا سنصل مع صندوق النقد للقطيعة، إلا إذا ضغطت الولايات المتحدة وأوقفت المساعدة".