اشتعلت مدن الولايات المتحدة بغضب الجماهير ضد بقايا العنصرية والتهميش، وانتقلت العدوى إلى مدن كندية وأوروبية الأسباب نفسها، ويتذكر الكبار مثلي أن آخر ثورة أمريكية عارمة حدثت عام 1968 على إثر اغتيال المناضل الأسود "مارتن لوثر كينغ"، وبعده اغتيال السيناتور "روبرت كينيدي" بعد اغتيال الرئيس جون كينيدي بخمسة أعوام. فتح اليوم باب المجهول مع انتشار وباء كورونا الذي أيقظ في الضمائر الأمريكية غضبا كان مخزونا لمدة قرنين ونصف القرن (تاريخ بعث دولة الولايات المتحدة على أيدي جورج واشنطن)، لأن كورونا هي التي تسببت في أيار/مايو 2020 في وجود 40 مليون عاطل عن العمل (من بينهم 32 مليونا من أصول أفريقية و8 ملايين فقط من البيض)، ثم إن كورونا تسببت في موت حوالي 100 ألف أمريكي "موت المواطنين السود 4 مرات أكثر من البيض"، و كأن هذه الحقائق لا تكفي، فجاءت جريمة مقتل المواطن الأسود (جورج فلويد) تحت ركبة المجرم (ديريك شوفين)، وهو يطلق زفرته الأخيرة (لا أستطيع التنفس إنكم تقتلونني)، وبالفعل قتلوه، وهي في الولايات المتحدة، (وفي فلسطين) جريمة عادية لا يعاقب مرتكبوها، بل ترسل لهم الإدارة في بعض الأحيان لوما خفيفا مع دعوة لمسك الأعصاب!! والإدارة بهذا السلوك المشين تشجع على القتل وتطلق غول العنصرية من القمقم، وهو اليوم ما أشعل نار الغضب.
والغضب ليس مقصورا هذه المرة على حادثة القتل ولا على استمرار الممارسات العنصرية، بل إنه غضب يتفجر ضد (السيستم) بأسره، أي ضد منظومة العلاقات الاجتماعية والقانونية والسياسية التي تسود في النظام الفيدرالي وفي الأنظمة المحلية؛ أي أنظمة الولايات في الولايات المتحدة، والشعار المرفوع هو (لا أستطيع أن أتنفس) ليس عبارة الضحية فحسب، بل صرخة مئات ملايين المواطنين الأمريكان الذين هم أيضا لا يستطيعون التنفس اجتماعيا وسياسيا! وقد امتدت المظاهرات منذ يوم الأحد إلى محيط البيت الأبيض، لأن الرئيس ترامب غرد بتويتر (يوم السبت 30 أيار/مايو) قائلا؛ "إنني أتهم اليسار الأمريكي وأنصار الفوضى بافتعال أزمة ودفع الناس للتظاهر!!" ولأول مرة منذ 1968 وصل دخان القنابل المسيلة للدموع إلى مكاتب البيت الأبيض، وقالت بعض الصحف الكبرى إن كتيبة الحماية الشخصية للرئيس وضعت ترامب في مأمن داخل ما يسمى (البلوكهاوس)؛ أي الملجأ المحصن ضد العدوان النووي (آخر رئيس زار الملجأ هو بوش الابن يوم 11 أيلول/سبتمبر2001 الدموي!).
هذا الغضب كان موجها ضد (سيستم) تكرار المأساة، لأنه لم يحسمها بالعدل، فشعر الشباب الأمريكي وليس السود وحدهم، أنهم مهددون في كل لحظة، بالإضافة إلى أن الرئيس الحالي ألغى منظومة الضمان الصحي (كار أنشورنس) التي سنها سلفه باراك أوباما واعتبرت من أعظم إنجازاته الداخلية، فالمواطن الأمريكي الذي يصاب اليوم بوعكة أو مرض، ليس من حقه أو في إمكانه التداوي ولا حتى مجرد كشف طبيب على مرضه، وطبعا لا يملك ثمن الأدوية ولا دفع تكاليف المشافي!
بمعنى أن أمامه إما الجريمة (وتمت في حالات عديدة من أجل الحصول على المال باستعمال السلاح) أو الموت، أو في أفضل الحالات اللجوء إلى الجمعيات الدينية لتحمل تكاليف علاجه (ومنها جمعيات مسيحية وإسلامية وبوذية)، هذا جناح واحد من أجنحة السيستم. أما الأجنحة الأخرى العديدة فهي المتعلقة بالقوانين الجائرة التي تخدم رأس المال المتوحش فقط، وتكرس ميزانية الدولة لتمويل التدخلات العسكرية الأمريكية خارج الحدود، وآخرها استعداد (الأفريكوم جيش التدخل الأمريكي في أفريقيا) لتحجيم القوى الروسية المتغولة في ليبيا، التي جاءت بسلاح جوي وطائرات من أجل مساعدة المتمرد على الشرعية والاعتداء على تونس لإجهاض الأنموذج الناجح الوحيد للربيع العربي والقضاء على الاستبداد! ثم محاولة حصار الجزائر وهي تتعافى تدريجيا من حكم الرئيس بوتفليقة الشبح! إننا نعيش لحظة تاريخية وأمام أعيننا يولد أمل جديد في نظام عالمي مختلف عن النظام الأطلسي الجائر. والسؤال: ما وضعنا نحن العرب في ملامح النظام العالمي الجديد؟ بينما نحن ما نزال أمة تعيش على هامش التاريخ وسلم البعض من ضعاف النفوس وأنصار صفقة القرن، مفاتيح مصائرنا إلى أيدي غيرنا! ولله الأمر من قبل ومن بعد وإلى الله ترجع الأمور.
(الشروق القطرية)