لازال النظام العربي يستند على ممارسات لم تعد مناسبة للقيادة لا في عصرنا هذا ولا في العصور القادمة.
لقد تأخر قادة العالم العربي في التعامل مع
المتغيرات التي تتطلب عملا دؤوبا لبناء الأوطان وتطوير قدراتها من خلال التركيز
على الإنسان وحقوقه. في الحالة العربية الدولة تعجز عن الصمود أمام ضغوط الدول
الكبرى أو حتى الدول الإقليمية، ولا هي قادرة على تلبية مصالح مجتمعها والحد من
الظلم ومنع تمركز المال بيد الأقلية على حساب الأغلبية. لكن بنفس الوقت لم تنجح
الدول العربية في التعامل مع قضية الحريات والتعبير، أو مع قضايا حقوق الإنسان والتعليم
والصحة وتنوع الهويات في المجتمع الواحد، كما لم تنجح في التصدي للفساد، الذي أصبح
وباء حقيقيا على الدولة العربية.
لقد تحولت الدول العربية في السنوات العشر
الماضية لأرض تتحكم فيها قيم العنف والسيطرة وقيم القساوة والفساد. وقد أدى هذا
لإضعاف القوة الناعمة العربية التي تنتج لنا الأدب والفكر والسينما والمسرح
والتناغم الوطني والاعتدال، بسبب أنماط القيادة الفاشلة هاجرت القوة الناعمة
العربية نحو عوالم أخرى مما جرد الوطن العربي من عمقه وإبداعه.
ويتضح الفشل القيادي في العالم العربي عبر ضعف
قيم العدالة. العدالة قيمة أخلاقية يقع أساسها في حق الإنسان في الحياة والمعاملة
المنصفة والكرامة والمساواة أمام القانون. وتتناقض العدالة مع الظلم والتجني
والاستقواء ومصادرة الحقوق والاضطهاد. إن قصص الظلم منتشرة في طول وعرض المنطقة
العربية، ولا يوجد ما يبشر بقرب تحقيق العدالة. بل هناك ما يؤكد بأن قضايا الظلم
وتآكل العدالة الاجتماعية وانتشار الفساد سوف تتكثف في المرحلة القادمة خاصة بعد
زوال فيروس كورونا.
لهذا يبرز السؤال: كيف
سيحافظ من تختمر قاعدته السكانية بكل أنواع الظلم على الاستقرار والتنمية والوحدة
بين الناس؟
ويقال دائما في وصف القيادة: لا يوجد جنود
فاشلون بل قادة فاشلون. والملاحظ في العالم العربي بأن مسـؤولية كل فشل توضع على
الجنود وبسطاء الناس وصغار الموظفين وقلما على صناع القرار الأساسيين. وهذا يترافق
في عالمنا العربي مع غياب النموذج واختفاء دور الشعوب العربية في اختيار القادة.
وبطبيعة الحال في ظل نقص قيم القيادة المرتبطة بالإنجاز والعدالة والمساءلة لا
توجد تنمية حقيقية، ولا ازدهار حقيقي (سوى في حالات استثنائية)، ولا يوجد بنفس
الوقت مشروع وطني جامع يعزز مكانة الإنسان والتعليم والبحث والعلاج والاستقلال
والاقتصاد.
مع غياب النموذج في العالم العربي نكتشف أننا
لا ننتمي عمليا للنموذج الغربي أو حتى الصيني أو الروسي أو غيره. لقد بنينا في
منطقتنا نموذج اللانموذج، فقلما ننجح خارج منظومات تكرس القمع والأمن والنهي
والفرض والفوقية. عالمنا في حالة ضياع، لأنه يرفع شعار الأمن منذ عشرات السنين،
لكن هذا الأمن في تراجع وضياع بسبب غياب العدالة ونقص الحريات، وانتهاك الحقوق،
وطرق القيادة البليدة.
قيادات العرب تجيد لغة الغرب والحداثة التي
تعظم قيم الحرية، لكنها في الممارسة ضد حرية الإعلام إلا اذا شيطن التيارات
النقدية السياسية أكانت ذات منشأ إسلامي أو حقوقي. الحالة القيادية العربية تعيش
انفصاما متداخلا بين خطابها للغرب وممارساتها ضمن مجتمعاتها، فهي في خطابها للغرب
مع المرأة ومع الحريات الشخصية وتبدو بأنها تؤمن بالتعايش بين الديانات، بل وتؤمن
بالتطبيع مع إسرائيل على أمل أن تقدم رسالة تسامح مشوهة تعطيها الحرية في قمع
مجتمعاتها بالصورة التي تجدها مناسبة. بل تبدو الحالة العربية مستعدة لتقديم نموذج
لليبرالية شكلية مفرغة من معظم شروط العدالة والليبرالية ذات المنشأ السياسي.
إن
قيم العدالة وقيم الليبرالية لا تتشكل إلا في أبعادها السياسية والنقدية
والإصلاحية. فالحريات الحقيقية هي بالأساس حريات سياسية قبل أن تكون حريات شخصية.
أزمة القيادة ستكون في المرحلة القادمة أخطر نقاط ضعف النظام العربي.
وتتضح مشكلة العرب عبر طريقة انتقال السلطة
بعد موت القائد، ففي عملية الانتقال لا مكان للشعب أو للمجتمع بكل فئاته، ومع
انتقال السلطة يستطيع الحاكم الجديد الاستفراد بالسلطة بصورة مطلقة إن قرر ذلك،
فلا توجد مؤسسات تحد من سلطاته، ولا قوانين تمنع الاستفراد، ولا حريات صحافية تسمح
بالنقد، ولا برلمانات تضع حدودا. وإن أراد الحاكم يستطيع أن يبطش بمن ينتقده
متوسعا في بناء السجون لاستقبال أعداد أكبر من الشعب. في العالم العربي قلما يخضع
القادة لقانون فاعل يحمي الأفراد والمؤسسات من ميولهم (القذافي نموذجا).
ويعيش العالم العربي مع فراغ القيادة. لكن
المدخل للتعامل مع هذا الفراغ مرتبط بمقدرة الشعوب على ابتكار حراكات تتعامل مع
تلك العلاقة المتوترة بين الشعب وسلطاته السياسية. إن الجانب الثاني من أزمة
القيادة العربية يتطلب نمطا من القادة ممن يتمتعون بالحكمة والتوازن والصدق وحسن
الإدارة والتسامح والمقدرة على تحفيز المجتمع والناس نحو برامج وأهداف ملموسة.
قيادة المجتمعات كما وإدارة الدول تتطلب القدرة على تجسيد الرؤية والحرص على الناس
في ظل المقدرة على استيعاب الأحداث والاستعداد للمستقبل.
(القدس العربي)