أخبار ثقافية

دفاعا عن التعليم عن بعد في ظل هيمنة أنظمة التعليم المترهلة

اعتمدت دول عدة التعليم عن بعد في ظل تفشي جائحة كورونا- جيتي

مع ظهور جائحة فايروس كورونا وتأثيراتها على مختلف قطاعات الحياة، برز التعليم عن بعد في مختلف دول العالم بديلا مؤقّتا عن الدراسة المباشرة التي يحضر فيها الطلبة مع الأساتذة في القاعة نفسها وتُقدّم المعارف بطريقة مباشرة.

 

وعلى الرغم من أنّ هذا البديل يُفترض أنّه مؤقّتٌ، وعلى الرغم من الشكوى الواسعة من الطلبة وأعضاء هيئة التدريس من هذا النمط من التعليم، إلا أنّه سيترك آثارا كبيرة في التعليم ووسائله المختلفة بعد انتهاء الوباء والعودة إلى الصفوف، مع العلم أنّ عددا غير قليل من مؤسسات التعليم توظّف وسائل التعليم عن بعد جزئيّا وتحفّز العاملين في هذا مجال التعليم على التحوّل إلى هذا الشكل الجديد قبل انتشار الوباء المستجد، لكنّ حضوره ظلّ ضعيفا ومحدودا لاعتبارات متعددة.


أحد الأسباس الرئيسة خلف شكاوى الأطراف المختلفة من التعليم عن بعد هو الحاجة المفاجئة له، دون إعداد مسبق للمناهج والمواد الدراسيّة التي تتطلّب تغييراتٍ وتطويرا يلزمه وقتٌ ومراجعة، ودون تدريبٍ على برامج التكنولوجيا ووسائلها التي يقوم عليها هذا التعليم. ويُضاف إلى ذلك أيضا بعضُ الصعوبات التي تُعدّ من طبيعة التعليم دون اتصال مباشر بين المتعلّم والمعلّم، مثل غياب التفاعل وضعف الجوانب الإنسانيّة. 


السبب الأوّل سيزول جزءٌ كبيرٌ منه وستضعف مبرراتُه إلى حدّ بعيد بشكلٍ تلقائيٍّ بعد هذه التجربة الإلزاميّة والتدريب المكثّف الذي قام به أطراف العلميّة التعليميّة من طلبة وأساتذة، حيث كانت الغالبيّة العظمى من العاملين في قطاع التعليم مُضطرّة إلى ممارسة التعليم من خلال وسائل التكنولوجيا دون الحضور المباشر مع الطلبة في المكان أو الوقت نفسه. ومما لا شكّ فيه أنّ العيوب والمشاكل التي برزت في هذه المرحلة قدّمت تعريفا مهمّا بما لا بدّ من القيام به لإجراء تغييرٍ على المادة المعرفيّة ووسائل تقديمها، مع بقاء الحاجة لتطوير ذلك وتنظيمه في المستقبل. 


ولعلّ الأمر الأكثر أهميّة هو تغيير مفهوم التعليم بحدّ ذاته، فالطالب لم يعد يُنظر إليه باعتباره متلقيّا سلبيّا والمعلّم هو مصدر المعرفة الوحيد، وإنّما يحتاج المعلّم أن ينظّم المعرفة للطالب وأن يكلّفه بالقيام بالتعلّم وتحمّل المسؤوليّة الناتجة عن مدى التزامه في نهاية المطاف. وبالتأكيد الحديث هنا عن التعليم العالي أكثر من التعليم المدرسيّ، وذلك لأنّ هذه الأخيرة تحتاج تنشئةً وتربيّةً ومراعاةً لخصائص النموّ والمرحلة العمريّة أكثر بكثير من التعليم العالي، وهو ما يتطلّب الكثير من المباشرة في الاتصال مع الطلبة.


 والسمات السلبيّة الأخرى المتعارف عليها في التعليم عن بعد من الممكن أن يُحدّ قدرٌ مهمّ من تأثيراتها إذا كان توظيف هذا الشكل من التعليم جزئيّا لتتوفّر بيئة تفاعليّة للمتعلّم تؤمّن الشروط المختلفة لاجتماعيّة المعرفة والتواصل الحيّ الذي ينمّي القدرات العقليّة والشخصيّة، في أجواء غير اضطراريّة  ولا طارئة.


ومما لا شكّ فيه أنّ استخدام وسائل التكنولوجيا عموما ووسائل التعليم عن بعد والتعليم غير المتزامن أصبح أمرا حتميّا وأساسيّا في العصر الحديث، وسيكون الشكل السائد في المستقبل بسبب ما يمتلكه من خصائص وسمات تتناسب مع ما تتطلّبه النُظُم الحديثة من الاقتصاد على المستويات المختلفة. التعليم عن بعد يوفّر الفرص لأضعاف أعداد المتعلّمين الحاليّة، ويقلل عليهم الكلفة والوقت والجهد. ويكفي للتمثيل على هذه الثلاثة ما يوفّره تقليل الحاجة إلى السفر من المال والوقت والجهد للمشاركة المباشرة في مجريات التعليم والمحاضرات والمؤتمرات. 


وفي الردّ على الجدل الذي يُشير إلى أنّ التعليم في العالم العربيّ ليس في أحسن أحواله في شكله التقليديّ، فكيف سيكون حين يصبح تعليما عن بعد وغير متزامن، أودّ أن أشير إلى أنّ الشكل الجديد من التعليم في مثل هذه الحالة قد يقدّم مستوى أفضل من التعليم التقليديّ؛ لأنّه سيكشف العيوب التي تصعب معرفتُها وفضحُها في قاعات التدريس المغلقة، ذلك أنّ تسجيل الدروس وتوثيقها يجعلها خاضعةً للنقد والمراجعة من الآخرين، الأمر الذي يؤدّي إلى تطويرٍ إلزاميّ لها وتخليص المادة المُقدّمة في التعليم من العيوب أو من بعضها على الأقلّ.

 

إنّ التوثيق والتسجيل لما يُقدّمه المشتغلون في الحقل التعليميّ من معلّمين ومتعلمين يُعرّي الضعف ويكشف الكثير من المستور مما يخالف المعايير المعتمدة في المؤسسات التعليميّة، ويضع المسؤوليّة على الأطراف التي ينبغي أن تتحمّلها. فجودة المادة المعرفيّة ومستوى تقدّمها وتنظيمها مسؤولية المعلّمين، وبالمقابل النتائج في الأداء ومستواها مسؤوليّة المتعلّمين ومستوى اجتهادهم ومتابعتهم وإمكاناتهم الفرديّة. 


بالإضافة إلى ذلك، تتيح أدوات التكنولوجيا إمكانيّة التخلّص من تكرار عرض المعلومات الأساسيّة التي تتكرر في كل مرّة تُدرّس فيها المادة، فمن الممكن تسجيل هذه المعلومات وشرحها ومناقشتها بأشكال مختلفة وإضافة الأسئلة الأكثر تكرارا والإجابة عنها، مع قابليّة هذه الأسئلة لإضافة الأسئلة الجديدة المطروحة من الطلبة الجدد وغير متوفّرة في بنك الأسئلة السابق. كما يمكن مراجعة هذه المعلومات مرارا وإعادة من هم بحاجة لهذه الأساسيّات إليها دون خسارة الوقت والجهد.


لم تعد التكنولوجيا وأدواتها وتغيير مفاهيم التعليم والتعلّم التابعة لذلك أمرا أساسيّا للتطوّر المستقبليّ فحسب، وإنّما هي وسيلة للتخلّص من عيوب التعليم التقليديّ ومما يسود فيه من أوجه القصور والإهمال لا سيّما في دول العالم التي تعاني أنظمتُها التعليميّة من ضعف وتراجع.