من مصلحة العرب والمسلمين بشكل عام، أن تكون المملكة العربية السعودية دولة مستقرة تأخذ قراراتها بروية وعقلانية، ويتم فيها تداول السلطة بشكل سلس، وتصرف مداخيلها الريعية الهائلة بطريقة رشيدة لخير الشعب السعودي أولا، ثم لفائدة الشعوب العربية والإسلامية والصديقة والمستضعفين في الأرض جميعا "والعاملين عليها وابن السبيل".
في السعودية مقدسات تهفو إليها قلوب الملايين
من أتباع الدين الحنيف ويتمنون أن تظل مصانة ومفتوحة لأهل الإيمان بدون عوائق أو
شروط أو تكاليف باهظة.
في السعودية ملايين العمال العرب والمسلمين
والأجانب، الذين يكسبون أرزاقهم بجدهم وتعبهم، مقابل ما يقدمون من الخدمات وما
يمارسون من المهن، التي يأنف كثير من السعوديين القيام بها. في السعودية شركات
إنتاج النفط العملاقة التي تؤثر منتوجاتها على حياة الناس جميعا. فأزمة البترول
عام 1973 ضربت اقتصاديات العديد من الدول، التي لم تكن جاهزة لمثل تلك الصدمة.
وأزمة انخفاض أسعار البترول في ثمانينيات القرن الماضي بشكل خطير أدى إلى شبه
انهيار كامل للاقتصاد العالمي، وكانت تلك الأزمة من بين الأسباب التي أدت إلى غزو
العراق للكويت عام 1990. في تلك الفترة تدخل صندوق النقد الدولي، لدى العديد من
دول العالم لفرض الخصخصة، ورفع الدعم الحكومي عن السلع الأساسية، فقامت على أثرها "انتفاضات
الخبز" في مصر وتونس والجزائر والأردن والمغرب.
السعودية لها حدود مع كل دول
مجلس التعاون الخليجي واليمن والعراق والأردن، وتمتد على مساحة مليوني كيلومتر
مربع، وشواطئها تمتد من البحر الأحمر إلى الخليج العربي. وبعد شراء السعودية
لجزيرتي صنافير وتيران من مصر، أوجدت لها منفذين على مصر والكيان الصهيوني. فالأمن
القومي للسعودية مرتبط أصلا بالأمن الإقليمي لدول الخليج واليمن وبلاد الشام
والعراق ومصر وإيران وتركيا.
ولا تستطيع السعودية أن تضمن أمنها على حساب أمن الآخرين، بل إن أمنها جزء من منظومة تستطيع السعودية أن تلعب فيه دورا محوريا، قائما على التكامل والشمولية، وليس على الفوقية والإقصاء وتوتير العلاقات. ولا أحد يستطيع أن يضمن أمن السعودية للعقود المقبلة إلا السعودية، وعلاقاتها مع دول الجوار، لا أمريكا ولا إسرائيل ولا قدرات السعودية الذاتية. السعودية إذن مؤهلة ماديا ومعنويا أن تكون دولة إقليمية عظمى، ولكن الذي ينقصها ويرمي بها في أواخر قوائم الدول المتقدمة والمنيعة، حكومتها غير الرشيدة الآن، وقراراتها المتسرعة وتورطها في الثورات المضادة، وانحيازها إلى جانب الكيان. نقاط ضعفها الداخلية تتمثل في هشاشة الحوكمة وتبادل السلطة، والقوانين العشوائية، وممارسة الحقوق الأساسية والحريات العامة، وانتشار الفساد وتبذير الأموال. وسنتحدث عن ثلاث أزمات كبرى تورطت فيها القيادة السعودية عديمة الخبرة تهدد، إذا ما استمرت، مستقبل السعودية ودورها وسلامتها الإقليمية، ووحدة ترابها الوطني.
أولا- حرب اليمن وتكاليفها
شكلت السعودية ومعها دولة الإمارات وحفنة من
الدول ما سمي بـ"التحالف العربي" الذي بدأ حربا شاملة يوم 25 مارس 2015،
لاجتثاث الحوثيين، وتثبيت الشرعية التي كان يمثلها الرئيس اليمني عبد ربه منصور
هادي. كان قرارا أهوج متسرعا، بدل البحث عن حل سياسي، مثلما عملت السعودية عندما
قدمت مبادرة خليجية عام 2011 لحل النزاع بين قوى الثورة اليمنية والرئيس علي عبد
الله صالح. بعد خمس سنوات من تلك الحملة، التي اعتمدت أساسا على القوة الجوية،
لنتأمل بعض النتائج:
– قيمة الأموال التي أهدرتها السعودية في الخمس
سنوات وصلت إلى 762 مليار دولار. لو أنها منحت اليمن حفنة منها لحولته إلى جنة،
ولوضعت تماثيل للملك سلمان في كل أرجاء اليمن، ولأصبح اليمن حليفا استراتيجيا
للسعودية.
– اليمن يشهد أكبر كارثة إنسانية في العالم، حيث
يعتمد نحو 24 مليون يمني (80%)على المساعدات الخارجية، من بينهم 16 مليونا على
حافة المجاعة. انتشرت في اليمن أمراض الكوليرا ونقص التغذية الحادة لدى الأطفال،
ووصل عدد الضحايا نحو مئة ألف بين قتيل في الحرب، أو هالك بسبب المجاعة أو
الأمراض، هذا عدا عن المصابين والمشردين.
– اليمن الآن أقرب إلى التفتت والانهيار كدولة
واحدة متماسكة. مناطق تحت سيطرة الحوثيين، وأخرى تحت سيطرة ما تبقى من الحكومة
الشرعية، وثالثة تحت سيطرة المجلس الانتقالي الجنوبي، ومناطق أخرى تسيطر عليها
القاعدة، وجزر تحت سيطرة الإمارات العربية، وولاية المهرة تحت سيطرة السعودية،
وليس بها لا شرعية ولا حوثيون. اليمن الذي أبدى نوعا من الوحدة الجميلة أثناء مؤتمر
الحوار الوطني من مارس 2012 إلى يناير 2013، انتهى إلى مثل هذه النهاية المأساوية
بفضل التدخل السعودي الإماراتي.
– الحوثيون، الذين وعدت السعودية باجتثاثهم خلال
أسابيع، وصلت صواريخهم وطائراتهم المسيرة إلى الرياض ونجران وأبها ومنشآت أرامكو
الاستراتيجية، وسببت صدمة عالمية. الآن تلهث السعودية وراء الحوثيين لتفاوضهم وهم
يتمنعون من موقع قوة. إيران التي لم يكن لها أي وجود في اليمن، تتربع الآن مستقرة
في البلاد تساعد الحوثيين في تطوير أسلحتهم من دفاعية إلى هجومية.
– أدرج اسم التحالف بقيادة السعودية منذ عام
2016 إلى اليوم، في قوائم العار الملحقة بتقارير انتهاكات حقوق الأطفال في مناطق
النزاعات المسلحة، كما تم إدراج السعودية في تقارير لجان حقوق الإنسان كإحدى الدول
التي تستهدف المدنيين في النزاعات المسلحة.
ثانيا- حرب أسعار البترول مع روسيا
من القرارات التي تدل على تهور القيادة
السعودية الدخول في حرب أسعار البترول مع روسيا. فقد حاول ولي العهد السعودي، محمد
بن سلمان، أن يقنع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، بخفض الإنتاج لرفع الأسعار، إلا
أن بوتين رفض هذا العرض وقرر بن سلمان بداية من 8 مارس خفض الأسعار بمعدل 6 ـ 8
دولارات، كما قرر رفع كمية الإنتاج من 9.7 مليون برميل يوميا إلى 12.3 مليون
برميل، فقررت روسيا رفع كمية إنتاجها بمعدل 300.000 برميل يوميا، ولحقت بذلك
الإمارات التي قررت رفع كمية إنتاجها من 3.5 مليون برميل يوميا إلى 4 ملايين. أدت
هذه المنافسات إلى هبوط أسعار البترول إلى نحو 30 دولارا للبرميل الواحد، أي بنسبة
انخفاض تصل إلى 34%. هذه الخطوة المتسرعة أدت إلى صدمة عالمية أطاحت بالكثير من
أسعار الأسهم، واضطر كثير من البورصات العالمية أن توقف التداول. لقد انخفضت
مداخيل السعودية بقيمة 30%، كما انخفضت القيمة الشرائية لأسهم أرامكو بمعدل 9.24 %
ليصل إلى 30 ريالا سعوديا. تقول شركة أرقام كابيتول، كما جاء في تقرير لرويترز، إن
السعودية ستشهد عجزا في الميزانية عام 2020 يصل إلى 16.1% بدل التقدير السابق
6.4%، إذا كان معدل سعر البرميل 40 دولارا، وسيصل العجز إلى 22.1% إذا كان معدل
سعر البرميل 30 دولارا، أي ما يعادل 170 مليار دولار.
السعودية إذن مقبلة على عجز مالي خطير غير
مسبوق، إذا استمرت الأزمة الطارئة في حرب الأسعار وتكاليف حرب اليمن وأزمة فيروس
كورونا، وما تعنيه من انخفاض في المداخيل، بسبب إلغاء العمرة وربما الحج ووقف عجلة
الإنتاج. ولك أن تتخيل إلى أين يتجه الاقتصاد السعودي.
ثالثا – الخلافات داخل الأسرة الحاكمة
من الواضح أن هدف الأمير أن ينصب نفسه ملكا
على السعودية، بأي طريقة كانت قبل 4 نوفمبر المقبل، موعد الانتخابات الأمريكية.
إنه يرى في وجود ترامب فرصته الأخيرة لتولي العرش. أقدم في المدة الأخيرة على
اعتقال عمه المسن الأمير أحمد بن عبد العزيز، كما اعتقل أولاد عمه نايف، محمد
وأخاه نواف، ومعهم عشرات من أفراد العائلة السعودية ووضعوا قيد الحجز، وربما
السجن، ووجهت لهم تهم الفساد أو محاولة الانقلاب أو الخيانة العظمى. حملة
الاعتقالات هذه تذكرنا بالحملة الأولى في يونيو 2017، التي قام بها بن سلمان بهدف
الإطاحة بابن عمه محمد بن نايف والاستيلاء على ولاية العهد، والوجهة الحالية
للاستيلاء على العهد نفسه، أي الإطاحة بوالده، إما طوعا أو كرها، خوفا من تقلب
الأوضاع السياسية في واشنطن. فكيف سيهضم آل سعود هذا التصرف؟
معارك حقيقية في اليمن، ومعارك اقتصادية مع
روسيا، ومعارك داخلية مع أمراء العائلة… هذه البداية. فكيف ستستقيم أمور هذه
الدولة المهمة، إذا ما تربع على عرشها شاب طائش متهور قد يحكم البلاد لخمسين سنة
مقبلة إذا ما استتبت له الأمور؟
عن صحيفة "القدس العربي"