رغم ما أظهرته العولمة من رسوخ وتأثير، ورغم ضخامة الاقتصاد العالمي المرتبط بالاعتماد المتبادل والتكامل بين الأمم، وما بذل في هذا النظام من استثمارات معززة بتقدم علمي وتقني هائل، فإنه نظام أظهر هشاشة وضعفا أمام التحديات المتوقعة والمفترضة للعولمة نفسها، مثل الأوبئة والإرهاب والأزمات المالية، وها هو العالم رغم تقدمه يعيش في واقع الحال تحت تأثير الوباء والهجرة والعنف والأزمات المالية الناشئة من قرارات أو اتجاهات يصعب السيطرة عليها، مثل أسعار الطاقة. ففي قوة ومكاسب النظام العالمي تشكلت أيضا نقاط ضعفه وهشاشته.
تقدم الاقتصاد العالمي في مرحلة سابقة قريبة نحو تجاوز الدول المركزية، وصارت المنظمات الاقتصادية الدولية مثل منظمة التجارة العالمية وصندوق النقد الدولي والشركات الكبرى والبنوك سلطة مالية واقتصادية عالمية ومحلية، لكنها منظومة لم تكن قادرة على إدارة الأزمة الناشئة عن وباء كورونا، وصارت الدول المركزية والمجتمعات التي تعرضت للتهميش، وتخلت عن معظم أدوارها والتزاماتها في مواجهة المسؤولية تجاه الوباء وحدها من غير تضامن أو مشاركة عالمية، وكأن الاقتصاد العالمي يعمل في اتجاه واحد فقط، فهو يريد فرض سياسات وتشريعات في الحدود والجمارك والرقابة والضرائب والفوائد والحماية، لكنه لا يتحدث عن التحديات والخسائر الناشئة بسبب العولمة.
العالم اليوم في مواجهة الوباء لا يبدو عالما واحدا كما هو في حركة الاستثمار والبنوك والتجارة العالمية، ففي الوقت الذي تستطيع هذه الشركات الحصول على التسهيلات والأرباح والاحتكارات في نظام اقتصادي وتجاري عالمي، لا يوجد تأمين صحي وتكافل اجتماعي عالمي، والدول أتاحت خدماتها ومرافقها للشركات والبنوك ووضعت لأجل حمايتها وضمان أموالها ومطالبها أنظمة تنفيذية صارمة ودقيقة حتى صارت الحكومات تكاد تكون قوة ضاربة لتحصيل التزامات المواطنين والمستهلكين لهذه البنوك، حتى امتلأت السجون بالمطلوبين ورهنت لصالحها أصول وأموال وأملاك الناس، لكن هذه الشركات والبنوك ليست شريكة في الالتزام الاجتماعي والمسؤولية العامة والتضامن مع ضحايا الوباء.
لا يتحدث أحد في دافوس عن الوباء والفقر والتهميش، تطرح أحيانا الهجرة كمسألة مزعجة للشمال، وليست كقضية إنسانية اجتماعية تدفع ملايين الناس إلى اليأس. لقد تحول مصطلح العولمة إلى رديف لـ«اللامسؤولية المنظمة» فليس ثمة أحد أو جهة يمكن الاحتجاج ضدها أو مخاطبتها أو مقاضاتها، أو كما يقول اولريش بيك «الكل ضحية، ولا أحد مسؤول».
وتتحول الدول الصغيرة والفقيرة إلى ضِياع «تيمار» تقوم فيها السلطات والشركات الكبرى والكمبرادور بدور الوكيل الملتزم للكارتلات العالمية، صيغة محدثة وأكثر تنظيما وإحكاما لأنظمة الإقطاع والجباية في الإمبراطوريات. وكلما أظهرت السلطات مزيدا من العنف والهيمنة يتأكد شعورها بفقدان أهميتها ودورها، بل والقلق على وجودها ومصيرها، فكما تقول حنة ارندت «وضوح ونسيان السلطة متلازمان معا مع قوتها»، ويمكن القول إنه عندما لا يتكلم أحد عن السلطة يعني هذا بأنها حاضرة بكل وضوحها.
لا نحب أن نتذكر اليوم بأن كل ما لدينا من معلومات عن بلادنا في الفترة العثمانية ليس سوى سجلات الضرائب التي لا يظهر فيها من أسماء الناس سوى وكلاء جمع الضرائب والإقطاعيين ومعظمهم من غير أهل البلاد! ولم تكن القلة المحلية أفضل أو أكثر رفقا بالناس أو حرصا على مصالح البلاد. يقول المسيح عليه السلام في إنجيل متى «وَإِنْ سَلَّمْتُمْ عَلَى إِخْوَتِكُمْ فَقَطْ، فَأَيَّ فَضْل تَصْنَعُونَ؟ أَلَيْسَ الْعَشَّارُونَ أَيْضًا يَفْعَلُونَ هكَذَا؟»، والعشارون هم جباة الضرائب الذين يحسبون العشور (الضرائب) ويسلمونها للإمبراطور والولاة.
عن صحيفة "الغد" الأردنية