كما أن ثمة أنماطا مختلفة من «التدين» غير الصحيح، هذا الذي يقتصر على تقديس الشكليات والطقوس، واختزال العبادة في إقامة الشعائر وعمارة الآخرة وفصل المفاهيم عن السلوك، فإن ثمة أنماطا مختلفة أيضا من «التفكر» المغشوش، هذا الذي يذهب بالعقل إلى وديان سحيقة من الخرافات والتأملات، ويتركه يقلب بين الجثث والمقابر، ويشغله بقضايا لا تعود على الإنسان بأي خير أو مصلحة، ولا تقدم للأمة غير مزيد من الكراهية والاحتراب.
لا تقتصر نماذج «التفكر» المغشوش على «رجال» الدين فقط، هؤلاء الذين يذهبون في مواعظهم ومؤلفاتهم إلى العناوين «الخطأ»، ويحرثون في أرض «يباب»، ويقتلون وقتهم بدراسة «الفتن» لتأجيجها، وإنما تتجاوزهم إلى العلمانيين ودعاة الحداثة وما بعد الحداثة، فهؤلاء -أيضا- مشغولون -دائما- بالتفكر في إدامة الصراع بين الديني وغير الديني، وفي هدم كل ما له علاقة بالدين، وفي ضبط بوصلة «فكرهم» ومؤلفاتهم نحو الانقضاض على كل ما هو جميل في المجتمع، تارة باسم الحرية، وتارة باسم التقدم والحضارة.
في بلادنا الإسلامية، لا نحتاج أن نسأل عن حصاد البحث العلمي، ولا عن حركة التأليف والترجمة، ولا عن «معدلات» القراءة ومستويات الأمية، ولا عن «الوعي» الذي نراه يتجسد في شوارعنا وأوضاعنا العامة وسلوكيات الناس والنخب، هذه كلها لا تحتاج إلى تعليق، فهي بائسة بامتياز، ولكن نريد أن نسأل عن حركة «التفكر» المغشوش، والدراسات والأبحاث المغشوشة، هذه التي «تغطي» على تخلفنا، وتقودنا إلى الوراء، وتسعى لإبقائنا في «المقابر» أو لنقلنا إلى «الحداثة»، حيث مصائد الآخر وخدعه، وحيث الذوبان والتبعية والاستقالة من القيم والأخلاق، ناهيك عن هدم الأديان.. كل الأديان.
بلداننا الإسلامية -للأسف- عطلت لقرون منطق «العقل»، ولكنها حين أرادت أن «تفكر»، دفعت الكثيرين من «أبنائها» إلى ممارسة «تفكر» مغشوش، فأصبحنا بحاجة إلى تدين صحيح، وإلى عقلانية غير فاسدة، وإلى كتب بيضاء لا صفراء، وإلى دراسات تراعي أولوياتنا، وإلى أبحاث تنهض بالأحياء، ولا تجلد الأموات، وإلى عقل «صراطي» يتوجه إلى العناوين الصحيحة لا المغشوشة.
(الدستور الأردنية)