مقالات مختارة

مهمة مستحيلة: الأمم المتحدة والملف الليبي

1300x600

أصاب عبد الحميد صيام، مراسل "القدس العربي" في نيويورك، عندما كتب معلّقا على استقالة د. غسان سلامة من منصبه كمبعوث خاص للأمين العام للأمم المتحدة في ليبيا، أنها "لم تأت مفاجأة، بل المفاجأة أن سلامة تحمّل كل هذا الإحباط والضغط والنقد والخداع الذي مارسته أطراف النزاع وداعموها من جهة، وعدم جدية مجلس الأمن في الالتزام بقراراته من جهة أخرى".

والحقيقة أن استقالة غسان سلامة مثالٌ ينضاف إلى عدد لا يُحصى من الأمثلة التي تؤكد أن القيادة التنفيذية للأمم المتحدة، المتمثلة بمجلس الأمن، مرتهنة بالمقام الأول بسياسة عرّابتها الرئيسية الولايات المتحدة الأمريكية، وبالمقام الثاني بالتوافق بين هذه العرّابة والعرّابة الأخرى وعاصمتها وموسكو.

صحيحٌ أن الاتحاد السوفييتي خرج من صناعة التاريخ وحلّ محلّه اتحادٌ روسي أضعف من سلفه بدرجات، وصحيحٌ أيضا أن جمهورية الصين الشعبية باتت لديها قوة اقتصادية أعظم مما لدى الاتحاد الروسي بدرجات، غير أن الوزن الاقتصادي ليس الاعتبار الرئيسي سوى في المؤسسات الاقتصادية، على غرار صندوق النقد الدولي حيث وزن الصين أعظم من وزن روسيا بدرجات. أما في الأمم المتحدة، وهي مؤسسة سياسية بامتياز، فإن الوزن تحدّده أدوات ما وصفه المنظّر الاستراتيجي البروسي كارل فون كلاوزفيتز بأنه "استمرار للسياسة بوسائل أخرى"، أي أدوات الحرب. وحيث لا زالت روسيا تحوز على ترسانة حربية متقدّمة نوعا، تأتي بالمرتبة الثانية بعد الترسانة الأمريكية، وحيث تعمّد حاكمها الراهن استخدام تلك الترسانة بجسارة، فإن موسكو عادت بعد مرحلة أفول قصيرة في العقد الأخير من القرن الماضي لتلعب الدور المركزي الثاني في المنظمة الدولية بعد واشنطن.

هذا يعني أن مجلس الأمن الدولي ما برح في جوهره وفي المقام الأول ساحة للمواجهة والمقايضة بين واشنطن وموسكو، تكون سلطته فاعلة في الشؤون التي يتوافق عليها الطرفان وتكون مشلولة في الأمور التي يتخاصمان في شأنها. وبما أن الوزن الطاغي في المنطقة العربية كان ولا يزال للعملاق العسكري الأمريكي، فإن موقف هذا الأخير يبقى هو الحاسم إذ يستطيع أن يرسم حدود تدخّل المنافس الروسي. وقد وفّرت الساحة السورية مثالا عن ذلك إذ لم تصعّد موسكو تدخّلها العسكري إلى مستوى التدخّل المباشر إلّا بعدما اقتنعت بأن واشنطن لن تعترض سبيلها.


والحال أن سياسة الرئيس الأمريكي السابق باراك أوباما كانت قائمة على السعي وراء الحلول التوفيقية في شتّى ساحات "الربيع العربي"، أي التوفيق بين المحورين المتنافسين اللذين انقسم إليهما حلفاء واشنطن الإقليميون، ألا وهما محور دعم الأنظمة القائمة الذي شكّله الحلف السعودي-الإماراتي ومحور احتواء الأزمات الثورية بالاتكال على "الإخوان المسلمين" الذي شكّله التحالف القطري-التركي. بكلام آخر، فإن أوباما كان أكثر تحبيذا لصِيَغ التعاون بين الأنظمة القائمة أو فلولها والإخوان، على غرار ما بادر إليه النظام الملَكي المغربي عندما أتى بـ"حزب العدالة والتنمية" إلى الحكومة وما شهدته تونس من تعاون حكومي بين «حركة النهضة» وفلول النظام البورقيبي المجتمعين في حزب "نداء تونس"، ممّا كان لصِيَغ الحسم العسكري على طريقة ما شهدته مصر مع الانقلاب العسكري الذي قاده عبد الفتّاح السيسي أو ما دعمه هذا الأخير في الساحة الليبية بالتعاون مع أبو ظبي، رأس حربة الدفاع القسري عن النظام العربي القديم. وقد رأت القاهرة وأبو ظبي في خليفة حفتر مشروعا مرادفا لما مثّله السيسي، إذ التف حوله فلول نظام القذّافي والسلفيون (المرتبطون بالمملكة السعودية) في محاولته القضاء على القوى المهيمنة في طرابلس والتي يشكّل "حزب العدالة والبناء" الإخواني طرفها الرئيسي.

هذا وقد دعمت واشنطن في عهد أوباما مساعي الأمم المتحدة في التوفيق بين معسكري النزاع في ليبيا، فأسفرت هذه المساعي في نهاية عام 2015 عن الاتفاق السياسي الذي عملت بموجبه "حكومة الوفاق الوطني" برئاسة فايز السراج. وكان بإمكان هذا الحل التوفيقي أن يستقرّ، بل حتى أن ينجب حالة من الانفتاح الديمقراطي موازية لتلك القائمة في تونس المجاورة، لو أن واشنطن بقيت ترعاه وتحدّ بالتالي من طموحات القاهرة وأبو ظبي. وما كانت موسكو لتعترض تلك المساعي التوفيقية إذ لم يكن لها بعد تدخّلٌ مباشرٌ في ليبيا، فلم تعرقل مساعي مجلس الأمن الدولي حرصا على أن تبقى لها يدٌ في الملف الليبي، قد تخسرها لو انتقلت إدارته إلى جامعة الدول العربية أو الحلف الأطلسي أو كليهما سوية.

أما وقد وصل دونالد ترامب إلى سدة الرئاسة الأمريكية في عام 2017، فقد انقلبت المعادلة الليبية بالكامل. ومن المعروف أن ترامب شديد التأثر بأبو ظبي فيما يخص المنطقة العربية، وكانت أول زيارة له خارج بلاده بوصفه رئيسا زيارته للرياض حيث ساير أبو ظبي بدفع الملك السعودي سلمان بن عبد العزيز، الذي بدأ عهده في عام 2015 بالسير على نهج أوباما التوفيقي، دفعِه إلى الارتداد الكامل على ذاك النهج وشنّ هجوم على قطر وعلى "الإخوان المسلمين".

 

وكذلك أرخى ترامب الحبل للحلف المصري-الإماراتي في ليبيا بحيث صعّدت الدولتان دعمهما العسكري لحفتر، فما لبثت موسكو أن رأت في الأمر فرصة لدخولها الحلبة إلى جانب الحلف المذكور، مما حدا فرنسا على الالتحاق بدورها بهذا الطابور حيث باتت تعتقد أن حفتر سوف يتمكّن من السيطرة على كامل البلاد.

لذا كانت مهمة غسان سلامة في الحقيقة "مهمة مستحيلة"، إذ كان مبعوثا خاصا لأمين عام لم يعد ينعم في الملف الليبي بدعم مجلس الأمن الدولي الحقيقي بعد تبدّل الموقف الأمريكي. وقد بذل سلامة جهده سعيا وراء إحراز سلام ديمقراطي في ليبيا، متكّلا بصورة رئيسية على علاقاته الفرنسية والأوروبية ومراهنا على إقناع الاتحاد الأوروبي بأن مصلحته العليا تقتضي أن يقوم بدور فاعل في ليبيا دعما للصيغة التوفيقة التي يؤيّدها الأوروبيون رسميا، لاسيما بعد إعلان تركيا بدورها عزمها على التدخّل المباشر في الساحة الليبية.

 

ولمّا تبيّن إثر مؤتمر برلين في بداية هذا العام وما تلاه من قرار في مجلس الأمن قبل أيام، أن لا واشنطن ولا موسكو ولا الأوروبيين راغبون في ممارسة ضغط فعّال لأجل التسوية السلمية وذلك لأسباب وحسابات متعددة، أدرك سلامة أنه يضيّع وقته وآثر الاستقالة حفاظا على صحته البدنية والنفسية.

عن صحيفة "القدس العربي"