في النصف الثاني من القرن الـ 16، وعلى إثر الهزة الدينية التي أحدثها مارتن لوثر، أعيد إحياء أفكار الدومينيكانية واليسوعية.
الأولى، هي رهبنة أسسها القديس دومينيك عام 1215، وكانت أول رهبنة كاثوليكية تأخذت على عاتقها التبشير بالعقيدة المسيحية، تميّز الدومينيكان بثقافة تجمع بين اللاهوت والفلسفة لا سيما فلسفة أرسطو، كمحاولة للتوفيق بين الفلسفة والدين.
أما الثانية، اليسوعية، فهي من أكبر وأهم الرهبانيات الفاعلة في الكنيسة الكاثوليكية، تأسست في القرن الـ 16 على يد القديس إغناطيوس دي لويولا.
اتجهت الرهبنتان الكاثوليكيتان إلى مواجهة الأفكار اللوثرية ضمن ما يمكن تسميته بالإصلاح الديني المضاد، وكانت خطتهم تقتضي محاربة فكرة الكنيسة غير المرئية التي دعا لها لوثر، بالتأكيد على أن العقيدة المسيحية لا يمكن فهمها من دون وجود مؤسسة دينية تاريخية لها خبرة طويلة في فهم الدين وماهيته.
كما قضت خطتهم أيضا، محاربة فكرة الخلاص بالإيمان وحده دون الأعمال، وإعادة التأكيد على مفهوم الخطيئة.
على الصعيد السياسي، رفضت الرهبنتان دعوات البروتستانية الداعية إلى عصيان الحكام الزمنيين إذا ما قضت الحاجة.
غير أن الرهبنتين كانتا مضطرتين أيضا لمواجهة أفكار إراسم الإنسانية المؤكدة على حرية الإنسان وعلى التسامح الديني، خصوصا مع الهراطقة، وعلى ضرورة تبسيط العقيدة وجعلها متاحة لعامة الناس، مع ما يعنيه ذلك، من إضعاف لدور الكنيسة كمؤسسة دينية.
القانون الطبيعي
وجدت الرهبنتان نفسيهما بحاجة إلى إعادة التأكيد على القانون الطبيعي باعتباره جزءا من أو مكملا للقانون الإلهي.
هنا يبرز سؤالا هاما، لماذا أصر الدومينيكان واليسوعيين في القرن الـ 16 على أهمية القانون الطبيعي في مواجهة اللوثرية والأنسنية ومكيافيلي، علما أن القانون الطبيعي استخدم لاحقا لتبرير الحقوق الطبيعية في مواجهة السلطات الزمنية.
هل استفاق اللاهوتي المسيحي لمقاومة تغول الحداثة والعلمانية؟
ومن المعروف أن الدومنيكان واليسوعيين كانوا مؤيدين للنظام القديم بشكله الديني المؤسسي والسياسي وضد أي تمرد أو خروج عن النسق السائد.. فما غايتهم من التأكيد على القانون الطبيعي؟
الغاية هي تبرير النظام السياسي والديني السائد طوال العصور الوسطى، حيث للكنيسة الكاثوليكية الهيمنة الدينية الكاملة على الأرواح.
إن القانون الطبيعي الذي أوجده الله في العقل الإنساني غايته أن يعمل الإنسان وفقا مقتضيات الطبيعة، ولما كان هذا القانون جزءا من القوانين الإلهية، فهو يعبر عن إرادة الله ورغبته، وبالتالي لا يمكن إجراء الفصل بين إرادة الله وعقله، فالله هو الصانع الأوحد لكل القوانين بما فيها القوانين الوضعية، لأن أساس الأخيرة مستمد من القانون الطبيعي، وهذا بدوره هو انعكاس لحكمة الله، لأنه يفيض بالضرورة من ذات الله المقدسة ويحدد طبيعة الأشياء.
هذه الرؤية للقوانين مستمدة من الترتيب الذي وضعه القديس توما الأكويني القائلة بأن العالم محكوم بالقوانين:
ـ القانون الأبدي LEX AETERNA وهو يطابق التدبير الإلهي للعالم، أو هو القانون الذي يحكم به الله العالم، وهو الحكمة الإلهية المنظمة للخليقة.
ـ القانون المقدس LEX DIVINA ويتمثل في الشرائع والأحكام التي أتت عن طريق الوحي أو التبليغ كالشريعة الخاصة التي انزلها الله على اليهود في اللوحين المحفوظين وكالتشريعات المسيحية التي جاءت عن طريق الكتب المقدسة أو الكنيسة.
ـ القانون الطبيعي LEX NATURALIS الذي يزرعه الله في البشر لكي يتمكنوا من فهم تصاميمه ومقاصده للعالم.
ـ القانون الإنساني الوضعي، وهو القانون الإنساني LEX HUMANA أو القانون المدني LEX CIVILIS الذي يقضي به البشر أو القانون الوضعي IUS POSITIVUM.
لجأ الدومينيكيون واليسوعيون إلى العقائد القديمة لبناء نظرة أرثوذكسية لمواجهة الأفكار الجديدة، فأكدوا بداية على أن فهما صحيحا للكتاب المقدس يفيد في الكشف عن حقيقتين مركزيتين:
الأولى، هي أن الكنيسة مؤسسة ذات سلطة قضائية واضحة ومرئية، وأن بنيتها مستمدة من وحي الروح القدس، وتم اعتماد ذلك في مرسوم ترنت عام 1546.
أما الحقيقة المركزية الأخرى فهي أن الكنيسة تؤلف سلطة هرمية واضعة للقوانين بإدارة مباشرة من البابا.
الدفاع عن الملكية السياسية
كان الهدف السياسي للدومينيكيين واليسوعيين هو الدفاع عن الدول القائمة، فركزوا هجماتهم على لوثر الذي قال إن الإنسان عاجز وجميع أفعاله نتاج طبائعه الساقطة، وعلى رأيه الآخر المفيد بوجوب اعتبار تقوى الحاكم شرطا لحكمه.
بالنسبة للرأي الأول، أكد اليسوعيون أن المسيحي مبرر بعدل باطني منحه إياه المسيح، لذا فالمسيحي خاضع لقانون حقيقي في جميع الأوقات وقادر على مراجعة القانون وتطبيقه.
أما بالنسبة للرأي الثاني، فقد أكد اليسوعيون عبر فرنسيسكو سواريز 1548 ـ 1617 وبللارمان 1542 ـ 1621 على أن المجتمع السياسي معطى إلهيا، وليس طبيعيا، فالقانون المدني العادل هو حاصل القانون الأخلاقي المقدس.
لكن أمام هجمات الإصلاح الديني وتزايد التأكيد على المفهوم الشعبي للسيادة القائل إن المجتمع معطى طبيعي يقيمه الإنسان، اضطر اليسوعيون أو دعاة الإصلاح الديني المضاد إلى تطوير نظرياتهم السياسية.
كان على اليسوعيين تفنيد الرأي القائل بأن جميع السلطات التي تفوض إلى الحاكم لبناء الدولة لا بد من أن تكون أصلا في أيدي أفراد الشعب أنفسهم.
تولى هذه المهمة سواريز الذي نظر إلى الجمع من البشر بطريقتين مختلفتين:
ـ اعتباره مجرد مجموعة من الشعب لا يؤلف كيانا سياسيا، لذا فهو لا يحتاج إلى حاكم.
ـ اعتباره تجمعا في كيان سياسي واحد عبر موافقة مشتركة لتحقيق غاية سياسية معينة.
الحالة الأولى هي حالة المجتمع في حالته الاجتماعية قبل أن يتحول إلى الحالة الثانية، حيث يوجد مجتمعا منظما سياسيا عبر نظام حكم.
سمح هذا التمييز لسواريز بالقول إن البشر في الحالة الأولى هم مجرد مجموع، فلا يمكن بالتالي الحديث عن أن سلطة وضع القوانين موجودة فيهم، فهم لا يملكون رسميا مثل تلك السلطة، وإن كانت تلك السلطة كامنة فيهم بالقوة لا بالفعل.
في المرحلة الثانية، يوافق المجتمع على إنشاء مجتمع سياسي حقيقي، وهنا يتحول الجمع البشري من مجرد جمع إلى كيان سياسي.
عند ذلك، فإن عملية تنصيب حاكم تدخل أعضاء المجتمع في الوقت ذاته في عملية خلق نوع جديد من السلطة فوقهم هي سلطة الحكم التي تعلو على الجميع ولا يمكن استردادها من الشعب.
لم يعد بمقدور الجماعة بعد أن فوضت السيادة للملك من أن تستعيدها، والثانية، فالملك يصبح ساميا في المملكة.
غروتيوس
مع غروتيوس 1583 ـ 1645 جرى التأكيد على الطبيعة الإنسانية فقط، ولم يعد الحق الطبيعي انعكاسا للعقل الإلهي وفق رؤية الأكويني التي حكمت الرهبنتين الدومينيكانية واليسوعية.
اعتمد هذا المفكر الكبير على أدوات خصومه لتبديد أفكارهم، فركز على إضفاء أساس مستقل عن كل عقيدة دينية في التأسيس الاجتماعي السياسي، بما جعله أحد المؤسسين للعلمنة من دون أن يعي ذلك.
إشكالية غروتيوس هي نفس إشكالية رفاقه السابقين من اليسوعيين في التأكيد على أن السيادة لا تكون في الشعب وإنما في يد الأمير.
لجأ غروتيوس إلى فكرة العقد الاجتماعي، فالدولة هي جسم من أشخاص أحرار انضموا لبعضهم البعض لتأسيس الكيان السياسي من أجل التمتع بحقوقهم.
لكن أين تكمن السيادة التي لا يمكن إلغاؤها؟ هنا يلجأ غروتيوس إلى تمييز ماهر، فيميز بين الموضوع المشترك والموضوع الخاص: الموضوع المشترك للسيادة هو الدولة، بينما الموضوع الخاص هو الذي تكمن فيه هذه السيادة (شخص أو عدة أشخاص).
إن العقد الاجتماعي ليس سوى قيام أفراد الجمع بنقل سيادتهم إلى الحاكم بواسطة هذا الميثاق الذي لا ينتهي أبدا.
هذا التأسيس للسيادة في شخص الحاكم، سيقود منطقيا إلى طرح مسألة الطاعة السياسية، وفي هذا يؤكد غروتيوس أن الملك له حق الطاعة، لأنه يتطابق باعتباره موضوعا خاضعا للسيادة، مع الدولة التي تعتبر موضوعها العام.
صراع محتدم بين الإصلاح الديني والإصلاح الديني المضاد، أو بين من يدعون إلى السيادة الشعبية في التأسيس للدولة، وبين من يدعون إلى ربط السيادة بشخص الحاكم للحفاظ على المؤسستين السياسية والدينية آنذاك.
هذا الصراع الفكري أنتج جدلية من الأفكار والأفكار المضادة، دفعت كل طرف إلى تطوير أسلحته الفكرية ضمن مرحلة تاريخية شهدت فيها أوروبا القارية تحولات كبيرة.
إن جدلية الديني والسياسي هي السمة الرئيسية لإرهاصات الفكر الأوروبي الحديث، وهي سمة تطبع أوروبا بامتياز، فبقدر ما كان الديني يحاول تدمير السياسي، والسياسي يحاول تدمير الديني وإقصاءه، بقدر ما كان كل طرف يساعد خصمه دون أن يدري.. إنه مكر التاريخ، حيث الأفكار تتناقض وتتصارع وتنقلب على بعضها البعض.
انشقاقات اللوثرية: الأناباتيست وأنبياء زويكو
إراسم ضد لوثر الأنسنة واللاهوت
مارتن لوثر.. رجعية دينية تمهد لحداثة سياسية (2-2)