تقول الحكاية إن ملكا يحب الذهب كثيرا حلت به لعنة، وصار كل ما يلمسه يتحول إلى ذهب. حتى ابنته المسكينة، جاءته تركض لتحتضنه، فتحولت إلى تمثال من الذهب. أي فجيعة؟
أن تتحول الأشياء إلى ذهب لهو أسوأ من أن تتحوّل إلى رماد؛ فالرماد على الأقل يقول بأن الأشياء فنِيت. لكن الذهب قابل للتداول إلى الأبد، ومن هذه الزاوية فهو يشبه الجحيم.
تقول أمي بأن الذهب إشارة سيئة في المنامات، إذا حلم المرء بالذهب فهذا يعني أن ثمة أمر ما.. سوف يذهب. إن الذهب، هذا الذاهب بالألباب، هو مشروع فقد لا اكتناز.
الذهب حالة عالقة. سلعة، شيء يباع، يشترى، عرضة للمساومات ومادة للصفقات. إنه المكان الذي تتسطح فيه تجربتنا الحياتية، وتغلبنا فيه قوانين السوق، ويتوحش فيه الإنسان.
لنتخيل الآن شكل الملك الذي يجلس في غرفةٍ ذهبية، على يمينه تمثال طفلته -المسكينة- التي أرادت أن تحتضنه فحسب، وأمامه صحن من ذهب، عليه حبات تفاح، وكأس نبيذ، وصنوف الأطعمة وقد تحولت كلها إلى ذهب.
إنه أغنى رجل في العالم، بلغة السوق، ولكنه أيضا.. يموت من الجوع.
وليس الجوع إلى الطعام وحده، بل إلى الحب. إلى اللمسة البشرية في أبسط صورها.
تجيء الحكايا بالنذر والبشائر طوال الوقت، فهذا الصوت الحكيم الذي نسمعه، هو جزء عضوي من أيّ قصة مكتوبةٍ بشكل جيّد. وهذه القصة تحديدا -قصة الملك ميداس- هي قصة حائزة على كل مقومات الخلود، لأنها مكتوبة بمنطق الأمثال، وفيها ما يكفي من السحر، عوضا عن كونها منتبهة لأمراض الإنسان؛ للشره الأبدي، وقلق المكانة، وهي ما فتئت تحذرنا من أن نتحوّل إلى هذا النموذج الملعون.
إن أغنى رجل في العالم، بمنطق السوق، هو أيضا أفقر رجال الأرض، على مستوى آخر؛ وهو جائع إلى التفاح، جائع إلى التقبيل والاحتضان. جائع ومحاصر بثروته التي تزداد مع كل لمسة.
حكاية الملك ميداس ليست مبالغة، بل هي موغلة في الصدق شأن كل الاستعارات. فالعالم مليء بالملوك الصغار، أصحاب الامتيازات، الذين يشقون بتحول كل ما يلمسونه إلى قصة نجاح، الذين لا يكتفون بكونهم ولدوا ملوكا محبوبين، بل يحولون كل ما يلمسونه إلى ذهب يذهب بأرواحهم.
إنهم محاصرون بالنعم الخالية من المسرات، ولديهم قصص نجاح كثيرة (بمنطق السوق) ولكنهم يفقدون قلوبهم في كل هذه الوفرة. أشخاص يختنقون بفعل متوالية من ضربات الحظ والامتيازات البيولوجية والعرقية والمادية. إنهم ضحايا الكمال الخانق، حيث لا سعي ولا وصول.
ولأنهم في الكمال، لم يخطر ببال أي منهم، أن الطريق إلى الخلاص هو النقص؛ هو الترك والتخلي.
"كيف أتخلى عن مكتسبات وامتيازات وحظوظ يحارب ملايين البشر كلّ يوم لأجل الوصول إليها؟ لا بد وأن أكون مجنونا". هكذا يفكر؛ بمنطق السوق الذي ينتصر مرة أخرى.
كل شيء يفعلونه هو محاولة للحفاظ على مكتسبات الصدفة. يصبحون أسرى للكمال في انعكاس صورتهم على صفحة البحيرة. مثل نرسيس؛ يكادون لا يصدقون أنهم بهذا الجمال، حتى صار الكون كله قبيحا.
والأسوأ من أن تكون الملك ميداس، هو أن ترغب بأن تكون الملك ميداس. إذ يبدو أننا لم نتعلم، حتى اللحظة، شيئًا عن جحيم المنتصرين؛ فالرابح يبقى وحيدا، يقول باولو كويلو. لكننا ندب كدود الأرض نفتش عن تلك اللعنة، لعنة الثراء المادي، والجمال الباهر، والشباب الدائم.
إننا نبحث دائما عن الأشياء الخطأ.
نرسيس أيضا مات غرقا في صورته. صار عبدا لجماله المحض. حُكم على المسكين بأن يعشق ذاته حتى مات وحيدا.
واحد مات من الجوع في قصر من الذهب، والآخر مات غرقا في صورة تعكس كماله. نرسيس وميداس هما الشخص نفسه.
أي لعنة هذه التي تلحق بالمرء بفعل الاستسلام لمنطق الحظ؟ لمنطق الأخذ؟ لمنطق السوق؟ وكيف يعيش من لا يقدر على المنح؟ وكيف لا تتخشب تلك الأيدي متجمّدة أمام العالم؛ تخافُ أن ينقص منها إصبعا لو صافحت متسولا في الشوارع.
تجيء الحكايا بالنذر والبشائر، إنها صوت الحكمة؛ صوت الجدات القديمات، حارسات الذاكرة، حارسات القيمة. يذكرننا بما ينبغي ألا ننساه أبدا؛ هذا العالم لعنة لولا الحب.