نردّدُ كثيرًا أن خفة الظل تتناسب بشكلٍ طردي مع منسوب القهر الاجتماعي.
عندما تشيعُ النكتة في مكانٍ ما، فهذا لأنها آلية دفاعية ضد نظام قمعي، أو وجود اعتباطي عديم المعنى. إذا وضعنا تخلفنا الاجتماعي جانبًا، فإن الوجود في ذاته جرح، وبعضنا يضحك على جراحه للارتفاع فوق المأساة.
وإذا كانت النكتة بطبيعتها تستهدفُ السلطة (سياسية، دينية، اجتماعية..)، فإن هناك نوعا آخر (مشوّها) من السخرية، يشيعُ اليوم في مواقع التواصل الاجتماعي ويتسيّد المشهد، إلى درجة تجعله جزءًا من الثقافة الجديدة، وعلى نحوٍ مؤذٍ.
ما أريد قوله هو أن النكتة، في جوهرها، نشاطٌ نبيل، وبطولي. ليس فقط لأنها تتصدى للقمع والتناقض والاعتباطية التي تسيّر شؤون الإنسان المقهور، بل لأنها، في الوقت ذاته، آلية تفريغ سلمي للعدوانية المتراكمة في أعماقه. نفهمُ هذا الأمر بشكلٍ واضح عندما نقرأ "التخلف الاجتماعي" لـ د. مصطفى حجازي.
يقول:
"التشنيع والنكتة تعبيران رمزيان عن العدوانية التي تعتمل في نفس الإنسان المقهور، حين يستحيل التعبير المباشر. فيها نيلٌ من المتسلط، حط من قيمته وتعالٍ عليه. إنها نوعٌ من قلب الأدوار الوهمي".
هذا يعني، أن شرط تحقق النكتة، هو أن تستهدف الأقوياء. وعليهِ فهي تقوم بدورٍ قائم على استعادة جزء من التوازن (المعنوي) إلى ميزان القوى المختل في أيّ مجتمع. باختصار؛ أنت لا تريد العيش في عالمٍ بلا نكتة، إلا إذا كان عالمًا بلا قهر، وبلا فساد.
لا يعي البعض هذا الشرط، الذي يعتبر مكونًا عضويًا في أي نكتة، عندما يتحوّل بخطابه من السخرية إلى الاستهزاء. يميز د. عبدالسلام بن عبدالعالي بين الاثنين على النحو الآتي:
"المتهكم يضع نفسه دائمًا في مركز قوة. إنه يشعر بأنه يتكلم ويكتب ويرسم من موقع الحقيقة والخير والجمال، لذا فما يطبعه أخلاقيا هو الثقة الزائدة بالنفس، ومعرفيًا هو الوثوقية والتمسك بالرأي، وجماليًا الاعتقاد الراسخ، والإيمان بثبات القيم وسكونها..
لأجل ذلك فهو لا يضع نفسه موضع سؤال، ولا يتهكم على نفسه، وإنما يكتفي بتصيد زلات الآخرين ونقاط ضعفهم ".
اقرأ أيضا : 10 علامات يُظهرها الأطفال تدل على استهداف المتنمرين لهم
وهو ما نراهُ كل يومٍ على قنوات التواصل الاجتماعي من صنوفِ التنمّر، الخالية من أي شجاعة حقيقية، تقوم على استهداف "الآخر" الضعيف أوالمختلف. التنمّر على عكس السخرية، لا يستهدف الأقوياء، بل الضعفاء.
إنه منطق استبداد الأغلبية ضد الأقلية، وقد يكون تعليقًا عنصريًا على ملامح أحدهم، أو موجة ضحك على حادث دهس يتعرض له مجهول، أو حتى سلسلة من التغريدات المليئة بالغمز واللمز على شاعرة ظهرت في مقطع فيديو لتقرأ قصيدتها الجديدة، أو كاتب من "الأكثر مبيعًا" نجح جماهيريًا أكثر من الحد المقبول.
اقرأ أيضا : نكات وقت النكبات.. لٍمَ يسخر المصريون من أزماتهم؟
إن المستهدفين للتنمر يمكن أن يكونوا أي واحد منا؛ قد يكون شخصًا دميمًا جدًا أو جميلًا جدًا (بالمعيار السائد)، طويلا جدًا أو قصيرًا جدًا، نحيفًا جدًا أو بدينًا جدًا، عبقريًا أو متخلفًا عقليًا. لا فرق؛ فهؤلاء يتم انتخابهم في لا وعي الجماهير لوقوعهم في مكانٍ ما خارج (المعدل الوسطي) للأشياء، وفي لا وعي الجماهير أيضًا، ينبغي معاقبتهم على اختلافهم.
يتحوّل التنمر إلى ظاهرة يومية، فاقمت الانترنت من تضخمها، ويمكنك أن تدخل إلى أيّ من الحسابات الساخرة على الانستغرام أو تويتر لترى بأن التنمر، والاستهزاء (من الشكل، أو اللهجة، أو طريقة الرقص، أو التعرض للضرب، أو أي اعتباطٍ آخر) هو الحالة الأساسية، وأن السخرية في شكلها الأصيل، بصفتها مقاومة لاستبداد الأقوياء في مجتمع غير عادل، هي الاستثناء، وهي الشجاعة الحقيقية التي لا يملك المهرجون خلف تلك الحسابات القدرة على تسديد ثمنها.
يقول ميلان كونديرا:
"السخرية، ذلك البريق الإلهي الذي يكتشفُ العالم في التباسهِ الأخلاقي، والإنسان في عجزه عن أن يحكم على الآخرين. السخرية؛ نشوةُ نِسبية الأشياء البشرية، اللذة الغريبة التي تتولد عن اليقين، بأن لا يقين".
إن النكتة الحقيقية هي تلك التي تهشم أحادية الرأي. إنها تكريس للتعددية والنسبية، ومحاولة للحط من جدية التفاهة التي تغلف خطاب السلطة القمعية والفاسدة، وهي ببساطة دفاع عن حقنا بالاختلاف.
النكتة بطولة فعلًا، والتنمّر سفالة.