ربما كان متوقعا فوز حزب المحافظين في الانتخابات التي أعلنها رئيس الوزراء قبل شهر تقريبا، ولكن لم يكن متوقعا بهذا الحجم. فقد كشفت النتائج أن الحزب حقق أكبر أغلبية منذ العام 1983، إذ صعدت شعبيته آنذاك بعد الحرب بين بريطانيا والأرجنتين حول جزر «فوكلاند». يومها كانت «المرأة الحديدية» مارغريت ثاتشر رئيسة للوزراء.
وقد اعتادت الدول الغربية التي تمارس الديمقراطية على التمتع بتوازن سياسي دقيق، يحقق القدرة على ممارسة قدر من الشفافية والمحاسبة بوجود معارضة مؤثرة. ولكن عندما يكتسح حزب ما الانتخابات ويتمتع بعدد كبير من المقاعد توفر له أغلبية ساحقة، تتجه الحكومة عادة للتعنت وتقترب من الاستبداد؛ لأن المعارضة لا تمتلك أصواتا برلمانية كافية لكبح جماحها، كمنع تمرير سياساتها أو محاسبة وزرائها، أو إجبارها على إجراءات أو قوانين لا ترغب فيها. وهنا قد تتجسد مقولة «استبداد الأغلبية». فمن جهة يبدو استقرار حكومة الأغلبية إيجابيا للبلد، بحيث تستطيع اتخاذ القرارات التي تراها ضرورية دون معارضة معوقة، ولكنها قد تنحو نحو الاستبداد والغرور، وقد يصل الأمر إلى ما وصلت إليه في السابق، عندما تطلب الأمر دفع السيدة ثاتشر للاستقالة بعد أن أصبح وضع البلاد راكدا؛ نظرا لتعنتها وسياساتها الصارمة. وبرغم فوزه بأغلبية واسعة، فمن المتوقع أن تكون السنوات الخمس المقبلة من حكم المحافظين محفوفة بالمخاطر الاقتصادية والسياسية، وربما الأمنية أيضا. فهناك مشاكل مزمنة يعاني منها المجتمع البريطاني، ومنها تراجع عائدات الدولة وتصاعد الضرائب ومعها الديون التي يتوقع أن تصل إلى تريليوني جنيه إسترليني (ألفي مليار)، خصوصا إذا سعى جونسون لتنفيذ وعوده بإنهاء التقشف وزيادة الإنفاق العام، خصوصا في المجال العسكري والتعليم والصحة، والدعم الاجتماعي. فقد اعتاد البريطانيون، منذ نهاية الحرب العالمية الثانية نمطا من العيش تدعمه الدولة، ومنها الرعاية الصحية المجانية والتعليم المجاني (حتى المرحلة الثانوية). ومع تعمق مشكلة الديون وعجز الميزانية، فسيجد المحافظون أنفسهم مضطرين لخفض النفقات العامة في هذه المجالات، الأمر الذي قد يدفع الناخبين لتغيير قناعاتهم والضغط لانتخابات جديدة.
ما الذي حدث وساعد المحافظين على استعادة موقع الصدارة البرلمانية بعد تراجع حظوظهم منذ الاستفتاء على الخروج من أوروبا (بريكسيت) الذي جرى الاستفتاء عليه في العام 2016؟ كان تعثر مفاوضات بريكسيت عاملا في تصدع الجبهة الداخلية البريطانية بنمط غير مسبوق منذ عقود. فالمحافظون لم تكن لديهم أغلبية برلمانية، ولم يستطيعوا تمرير الاتفاق الذي توصلت إليه حكومة تيريزا ماي مع أوروبا، الأمر الذي اضطرها للاستقالة وحلول وزير خارجيتها بوريس جونسون مكانها. هذا في الوقت الذي كان حزب العمال المعارض يعاني من أزمات داخلية؛ نظرا للاختلاف حول البقاء أو الخروج من أوروبا. كما أن شخصية رئيس الحزب، جيريمي كوربين، كانت مثار جدل كبير بسب خلفيته اليسارية وتاريخه النضالي ضد الرأسمالية والإمبريالية. وبذلت المؤسسة الحاكمة البريطانية (وقوى خارجية خصوصا «إسرائيل» وبعض دول الخليج) الجهود كافة لمنع فوزه في بلد يعتبر نقطة ارتكاز النظام الرأسمالي الاستعماري.
هناك عوامل عديدة ساهمت في فوز المحافظين الساحق في الانتخابات؛ أولها: الخلاف الحاد واللغط حول شخصية السيد كوربين. ثانيها: جهود المؤسسة الحاكمة بكافة أجهزتها لمنع فوزه وهي جهود مؤثرة لا يمكن التقليل من شأنها. ثالثا: الإعلام الواسع الذي هو جزء من المؤسسة الرسمية، وانحيازه المكشوف ضد كوربين، ودوره كذلك في تخدير الرأي العام وحصر اهتماماته بالهموم الداخلية اليومية. رابعا: العقلية البريطانية التقليدية التي تميل عموما للاتجاه المحافظ وترفض التغيير أو المغامرة. خامسا: عزوف الرأي العام التقليدي عن القضايا الدولية، وحصر اهتماماته بالسياسات الداخلية، فهو لا يعرف دور السيد كوربين في مناصرة الشعوب المضطهدة خارج الحدود سواء في فلسطين أم دول الخليج. وقبل أسبوعين فحسب، أعلن كوربين أن حزبه سيوقف تزويد السعودية بالسلاح في حال فوزه، الأمر الذي تعارضه المؤسسة السياسية والعسكرية خصوصا مع توجه بريطانيا نحو الخليج بعد إكمال عملية الخروج من أوروبا.
كوربين له أعداء كثيرون، ومن بينهم الحكومة الإسرائيلية. فهو من الجناح المعروف بدفاعه المستميت عن الفلسطينيين ومواقفه الناقدة للسياسات الإسرائيلية. هذه المواقف نجم عنها حملة منظمة تتهم حزب العمال بمعاداة السامية، وهي تهمة أثيرت كثيرا وساهمت في تقليص حظوظه الانتخابية. وقبل يوم واحد من الانتخابات عبّرت «إسرائيل» عن قلقها إزاء احتمال صعود حزب العمال بزعامة جيريمي كوربين للحكم، وقالت إنه «يمثل تهديدا للعلاقات الثنائية وأمرا مثيرا للقلق بالنسبة ليهود بريطانيا».
ومن المؤكد أن هذه الدعاية المضادة أثرت على بعض الناخبين، ودفعتهم للابتعاد عن حزب العمال، والتصويت للمحافظين. هذا برغم أن زعيم الحزب، بوريس جونسون، فشل في المبادرات كافة التي اتخذها في الشهرين الأولين من تعيينه زعيما للحزب، بما في ذلك إقناع الملكة بالموافقة على قراره تعليق البرلمان خمسة أسابيع. الأمر المؤكد أن المؤسسة البريطانية كانت في حرج شديد، وأنها غير راغبة أبدا في وصول كوربين إلى رئاسة الوزراء، لأن ذلك سيمثل انقلابا على التقاليد والأعراف والثقافة البريطانية، التي تتبنى سياسات خارجية تتناقض تماما مع ما يطرحه كوربين.
ومن الطبيعي ان تتعاطف الأقلية المسلمة (التي يصل تعدادها إلى ثلاثة ملايين) مع حزب العمال بزعامة كوربين، وهي التي لم تخف امتعاضها من سياسات رئيس الوزراء الأسبق، توني بلير، خصوصا مشاركته في الحرب على العراق. كما أنها ممتعضة من بوريس جونسون أيضا لمواقفه ونظرته للمسلمين. وكانت تعليقاته المؤذية على المسلمات خصوصا اللاتي ترتدين النقاب مثار سخط واسع. وتشعر الجالية المسلمة أنها مستهدفة بشكل خاص، فهناك ظاهرة الإسلاموفوبيا التي لم تتوقف أبدا، يضاف إلى ذلك مشروع «بريفنت» الذي يخول الشرطة إيقاف أي شخص والتحقيق معه تحت دعوى «مكافحة الإرهاب». ويعاني المسلمون كثيرا من هذه السياسة، الأمر الذي يربط المسلمين بالإرهاب لدى الرأي العام. إنه تمييز يشعر به المسلمون، وكثيرا ما احتجوا ورفعوا أصواتهم من أجل التخفيف منه. ومن المؤكد أن تصاعد النزعة نحو التطرف اليميني يكرس هذه الممارسات، التي تتناقض مع مبادئ المواطنة المتساوية واحترام الخصوصية الدينية للمكونات الاجتماعية.
الأمر المؤكد أن الفوز الساحق لحزب المحافظين واستلام بوريس جونسون رئاسة الحكومة، سيكون تحديا حقيقيا ليس للمسلمين فحسب، بل لبقية البريطانيين، سواء الذين انتخبوه أم عارضوه. وحتى داخل الحزب الحاكم نفسه، فهناك مشاعر غاضبة لدى رموز متقدمة من الحزبيين الذين شعروا بالإهانة عندما طردهم من الحزب، بسبب معارضتهم مشروع الخروج من أوروبا. أما المعارضون، فسوف يواجهون أوقاتا صعبة في ظل حكومة قادرة على تمرير ما تشاء من قوانين وإجراءات؛ نظرا لما تتمتع به من أغلبية كبيرة. وسيجد أنصار المحافظين أنفسهم محرجين عندما تشتد ضغوط الحياة الاقتصادية تحت وطأة التضخم وارتفاع اسعار الفائدة وتصاعد الضرائب. وقد يتمكن جونسون من تنفيذ وعده بإخراج بريطانيا من الاتحاد الاوروبي في نهاية شهر كانون الثاني/يناير 2020 ولكن ماذا بعد؟ فليس مستبعدا تعاظم الرغبة لدى المكونات الأخرى، مثل الإسكوتلانديين للانفصال عن بريطانيا، خصوصا أنهم مع البقاء في الاتحاد الأوروبي. وما تزال ذاكرة السيدة ثاتشر ماثلة في أذهان جيل من البريطانيين عاش في ظل حكمها، وعانى من فرض ضريبة الرأس التي أدت لمظاهرات لم تشهد البلاد لها مثيلا منذ عقود. فرئيس الوزراء القوي يمثل ثقلا سياسيا وحكوميا كبيرا، ولكنه يتحول تدريجيا إلى أزمة لحزبه وحكومته وشعبه وبلده. على المدى القصير سيتمكن جونسون من تنفيذ أغلب وعوده، ولكن على المدى البعيد سيواجه استحقاقات الشعور الوهمي بالعظمة والقوة، والاعتقاد بأنه «القائد الضرورة» وأن بريطانيا لن تستطيع السير بدونه. عندها ستبدأ استحقاقات عديدة من أنواع أخرى لتحاصر بريطانيا العظمى ومن يمثلها في دهاليز السلطة.
عن صحيفة القدس العربي اللندنية