ما لا تريد أن تفهمه أحزاب
السلطة في العراق، من ثورة الشعب، هو أن عصر التبعية لإيران قد انتهى. لقد كان
شعار طرد إيران من بين أول شعارات المتظاهرين الشباب، وهذا ما صدم الطبقة السياسية
التي فصلتها إيران على مزاجها، وأيضا صدم كل توقعات مرجعية الحكومة الدينية في
النجف، والتي يرأسها إيراني لا يجيد حتى اللغة العربية، هذه المرجعية التي كانت
تراهن على ولاء المكون الشيعي لها، بانقياد تام، والتي لم تتوقع يوما أي تمرد من
هذا المكون على قداستها وانقياده لها.
طوال الستة عشر عاما الماضية، سوقت الطبقة
السياسية، ومن ورائها المرجعية، على أن هذه المرجعية صمام أمان للشعب وإنها حامية
له، حتى زالت الغمامة عن أعين الشباب وثاروا، فتبين لهم أن المرجعية والحكومة
تأكلان في نفس الصحن.. ثم جاءت خطب المرجعية، في أيام جمع الانتفاضة، لتؤكد لهم أن
هذه المرجعية ليست سوى صمام أمان الحكومة، ومن يقف وراءها من أحزاب، وإنها راعية
الطائفية بامتياز، وإن الطائفية رهانها الوحيد على إبقاء المكون الشيعي تابعا
لإيران، عبر تبعيته وولائه لها.
لقد أسقطت ثورة الشعب العراقي الكثير من
الأوهام والغمامات عن الأعين، كما أنها أظهرت المرجعية بألوان ثيابها الحقيقية،
وخاصة عبر خطبها في جُمع الثورة، والتي كرستها للدفاع عن الحكومة القائمة، عبر
الإشارة الخجلة للحكومة بإجراء بعض الإصلاحات على سياساتها وفسادها، ومن ثم عبر
التلويح للثوار الشيعة بأن ثورتهم ستذهب السلطة من أيديهم، كمذهب وطائفة، إلى يد
عدوهم، المكون السني طبعا، وهذا على عكس ما انتظره الثوار منها ومن ثقتهم في
رجاحتها، في كونها ستقف إلى جانب الحق وحقوقهم المشروعة، إلا أنها أثبتت لهم أنها
لا ترى لهم حقا في أكثر من الولاء لها وللمذهب الذي يجب أن يسود عبر حكومتها، حتى
لو بدد ثرواتهم وحرمهم من حقوقهم في حياة كريمة.
والحقيقة أن خطب المرجعية خلال شهريّ ثورة
الشباب العراقي المنصرمين، أثبتت أنها سلطوية وتمارس سلطة الظل على الحكومة، من
أجل ضمان مصالحها الخاصة، ومع الحكومة، على الشعب، من أجل أن يبقى الشعب على رضوخه
وإذعانه وأن لا يرى في الاحتلال الإيراني للعراق سوى أنه هبة سماوية مباركة، وأن
يشكر الاثنتين، المرجعية وحكومتها، على تحول العراق إلى محافظة فارسية.
ولو دققنا النظر في حقيقة موقف المرجعية
المعادي لثورة الشباب، فإنه يدلل على تخوفها على مصالحها ومصالح إيران بالدرجة
الأولى، وذلك بسبب رفع المتظاهرين، ومنذ اليوم الأول للتظاهر، لشعارات معادية
للطائفية، وتحميلهم لنهجها الكثير من أسباب تخريب النسيج الاجتماعي العراقي، في
حين أن الطائفية – وكما أثبتت خطب المرجعية الأخيرة – كانت عكاز المرجعية الرئيسي
الذي توكأت عليه طوال السنوات الست عشرة الماضية، في إذعان المكون الشيعي وتسقيط
ومحاربة المكون السني، وأيضا في الهش بها على الأصوات المنددة بالاحتلال الإيراني
المباشر للعراق، هذا إضافة لمآربها الأخرى التي سيكشف عنها نجاح ثورة الشباب في
ساحات التظاهر.
وكرد فعل من الشباب الثائر، على إصرار
المرجعية على عدم رؤية حقيقة ألوان ثيابها الإمبراطورية، التي تكشفت عنها، وخاصة
فيما يخص تغطيتها على الاحتلال الإيراني، قادوا خلال الأيام الأخيرة ثورة إعلامية
ودعائية، عبر وسائل التواصل الاجتماعي، لمحاربة الاقتصاد الإيراني عبر بضائعه،
المفروضة على السوق العراقية، من أجل مقاطعتها والاعتماد على البضائع المحلية
كبديل لها. كما أنهم يقودون حركة دؤوبة الآن من أجل إعادة تشغيل المصانع والمعامل
العراقية، المعطلة بأوامر إيرانية، من أجل تعويض السوق عن المنتجات الإيرانية.
وبالتزامن مع هذه التحركات التي أعلت روح وحدة الشعب بمرجعيتها الوطنية، والمضادة
لدعوة المرجعية الطائفية التفتيتية لوحدة النسيج العراقي، شن الثوار حملة تشكيكية
في وجود شخص رأس المرجعية، الإيراني على السيستاني، وإذا ما كان فعلا مازال على
قيد الحياة أم لا، وإذا ما كان فعلا مازال يدير قرار الحوزة بنفسه، إذا كان حيا،
ولم يصبه الخرف أو الزهايمر، بعد تجاوزه للتسعين من عمره، في حالة بقائه على قيد
الحياة. فقد طلب الثوار ظهوره العلني، ولو عبر تسجيل مصور، وأن يتكلم لهم ويوضح لهم
موقفه مما يجري من تجاوزات الحكومة على ثورتهم السلمية، التي لم تقابلها الحكومة
وميليشيات أحزابها بغير القنابل المسيلة للدموع والرصاص الحي، والمجازر الوحشية،
والتي راح ضحيتها أكثر من خمسمئة شهيد وما يقارب الخمسة عشر ألف مصاب، لحد مجزرة
ساحة الخلاني الأخيرة، التي نفذتها فصائل من ميليشيات الأحزاب، المنضوية تحت يافطة
الحشد الشعبي، إضافة إلى قوات من الحرس الثوري الإيراني المنتشرة في العراق.
وبالمقابل، ومن خلال الحركة المكوكية التي
يقودها الجنرال قاسم سليماني، ذراع سلطة الولي الفقيه في العراق، منذ اندلاع ثورة
الشباب، نستطيع تشخيص حجم رد فعل إيران على ثورة الشباب العراقي ضد الاحتلال
الإيراني، وخاصة بعد إستقالة تابعهم، عادل عبد المهدي، من رئاسة الحكومة، من اجل
فرض رئيس وزراء بديل مماثل لسابقه في التبعية لإيران، وأيضا من اجل الإشراف بنفسه
على حملة قمع ثورة الشباب بالقوة، لأن إيران تأكدت، بعد شهريّ عمر الثورة
المنصرمين، أن شباب الثورة أكثر وعيا ووطنية مما قدروا، وأنهم باتوا الخطر الأكبر
على مصالح إيران في العراق، وخاصة أن تحرير العراق من الهيمنة الإيرانية هو أول
أهداف هذه الثورة، وخطوات الثوار أكدت لهم أن لا تراجع عن طرد كل الوجود الإيراني
من العراق، وبتصميم لا عودة عنه، وخاصة بعد كسر الثوار لعكازة المرجعية التي كانت
تهش بها إيران على الشارع الشيعي وتخرس بها صوته، عبر دعوى الخوف على المذهب
وتهديد المكون السني له، التي أثبت تكاتف السنة مع الثورة بطلانها وبهتانها المبين.
عن صحيفة القدس
العربي اللندنية