لا يوضع ضمن قالب فكري واحد؛ تتشعب الطرقات والمسالك في تصنيفه المهني أو الوظيفي أو الإبداعي، فالقائمة تطول حد الفيضان فهو: أستاذ لسانيات، وفيلسوف، وعالم إدراكي، وعالم بالمنطق، ومؤرخ، وناقد، وناشط سياسي، وكاتب، وأبو اللغويات الحديثة.
كتب عن الحروب والسياسة ووسائل الإعلام عبر أكثر من 100 كتاب.
ووفقا لقائمة الإحالات في الفن والعلوم الإنسانية فقد استشهد به كمرجع أكثر من أي عالم حي في الفترة ما بين عامي 1980 و1992، كما أنه صُنف بالمرتبة الثامنة لأكثر المراجع التي يتم الاستشهاد بها على الإطلاق في قائمة تضم فريدريك إنجلز وكارل ماركس وغيرهما.
امتد تأثيره إلى مجالات عديدة كعلوم الحاسوب والرياضيات وعلم النفس والطب. ويعود إليه الفضل في تأسيس النظرية اللغوية "النحو التوليدي"، ويعود إليه كذلك فضل تأسيس ما أصبح يُعرف بـ"تراتب تشومسكي" ونظرية "النحو الكلي" .
نشأ أفرام نعوم تشومسكي، المولود عام 1928 بفيلادلفيا بالولايات المتحدة الأمريكية يهوديا ولكن فيما بعد ابتعد عن تقاليده اليهودية ويعرف نفسه حاليا على أنه "غير ديني". والده يهودي من الأشكناز هاجر من أوكرانيا إلى الولايات المتحدة لتجنب التجنيد في الجيش. وكلا والديه عملا في التعليم، فوالده عالم في اللغة العبرية ووالدته مدرسة.
ترعرع في بيئة محفزة فكريا وتعليميا فقد دعم العديد من أفراد عائلته الكبيرة السياسة اليسارية، وتعرض وهو صغير لأفكار الاشتراكية والفوضوية والستالينية التي ساعدت على تطوير ميوله السياسية الخاصة.
بدأ دراسة الفلسفة واللسانيات في جامعة "بنسلفانيا" عام 1945 وحضر وقتها دروسا متعددة لفلاسفة كبار في ذلك الوقت، ومن خلال دراسته وتأثره بهم عن قرب توصل إلى "التحولات" كتحليل رياضي لبنية اللغة.
وأشار تشومسكي لقواعد الصيغ الصرفية في أطروحته للماجستير عام 1951 بعنوان "الصيغ الصرفية في العبرية".
وفيما بعد منح تشومسكي درجة الدكتوراه في اللغويات من جامعة "بنسلفانيا " عام 1955. ونشر جزءا من أبحاثه كزميل في جامعة "هارفارد". وفي أطروحته للدكتوراه طور بعضا من أفكاره اللغوية وتوسع بها في كتابه الذي صدر عام 1957 بعنوان "التراكيب النحوية" والذي يعد من أشهر كتبه في مجال اللغويات.
اقرأ أيضا: تشومسكي يتحدث عن الجذور الأمريكية لأزمة اللاجئين الحالية
انضم تشومسكي لهيئة تدريس معهد "ماساتشوستس للتقنية" عام 1955 في عام 1961 وأصبح أستاذا في قسم اللغات الحديثة واللسانيات، وعين لاحقا بروفيسورا للمعهد، وبقي مدرسا في المعهد لأكثر من 50 عاما متواصلة.
وحمل كتابه الأبرز "صناعة الإذعان: الاقتصاد السياسي لوسائل الإعلام الجماهيرية" عام 1988 والذي تشارك في كتابته مع إدوارد هيرمان انتقادات لاذعة لوسائل الإعلام، ووفقا لنموذج الدعاية فإن المجتمعات الديمقراطية تقوم باستخدام وسائل خفية وغير عنيفة للسيطرة، بعكس الأنظمة الاستبدادية، وفي أحد مقولاته الشهيرة صرح تشومسكي أن "الدعاية تمثل بالنسبة للأنظمة الديمقراطية ما تمثله العصا للأنظمة الاستبدادية".
يعرض تشومسكي الإعلام كآلة توظفها الدولة لتوجيه آراء العامة بشكل رئيسي، ممهدة بذلك أرضية أكثر مرونة لقبول وتبني القرارات والإجراءات التي سيتم اتباعها لاحقا من الدولة في الإدارة.
وكثيرا ما رفض تشومسكي اتخاذ إجراءات قانونية ضد أولئك الذين شهروا به وفضل التصدي من خلال رسائل مفتوحة في الصحف، ساعيا إلى عزل آرائه السياسية عن عمله، وذكر مرارا أنه ليست هناك صلة بين عمله وبين آرائه السياسية، بل إنه ينتقد المفهوم الذي يرى أن "نقاش المواضيع السياسية يتطلب معرفة خبير في المجالات الأكاديمية".
ولا تخلو مسيرته من النقد فقد اتهمه بعض النقاد بالنفاق لأنه وبالرغم من نقده السياسي للعسكرية الإمبريالية الأمريكية فإن أبحاثه السابقة في جامعة "ماساتشوستس للتكنولوجيا" كانت بتمويل من الجيش الأمريكي.
ووصفه النقاد الأكثر تعاطفا، مع الإشارة لنفس النقطة المختصة بتمويل الجامعة بأنه "ضمير أمريكا"، وأوضح تشومسكي أنه لذات السبب ولأنه مول من قبل الجيش الأمريكي فمسؤوليته أعظم في انتقاد ورفض أفعاله اللاأخلاقية.
وردا على قولهم بأنه "ممل أثناء حديثه" فقد قال تشومسكي: "أنا متحدث ممل وأحب تلك الطريقة وأشك في أن الأشخاص ينجذبون للشخص أيا كانت شخصيته، فالأشخاص يهتمون بالقضايا وهم يفعلون ذلك لأنها مهمة، ونحن لا نريد أن نتأثر بالأساليب السطحية تبعا للعاطفة".
وعلى الرغم من محاولته تجنب التصنيف إلا أن آراءه السياسية تصنف غالبا باليسارية، وقد وصف نفسه بأنه يتبع "النقابة الأناركية" والمصطلح يعني اللاسلطوية ويطلق على أتباعها مصطلح اللاسلطويين، وهي فلسفة سياسية تقوم على رفض التسلسلات الهرمية التي يرونها غير عادلة والرافضة لكل أنواع التنظيم.
من هنا عرف بنقده للسياسة الخارجية للولايات المتحدة الأمريكية ورأسمالية الدولة ووسائل الإعلام الإخبارية العامة.
وفي عام 1967 أصبح واحدا من المعارضين الرئيسين للحرب الفيتنامية، وأثارت انتقاداته للسياسة الخارجية لأمريكا الكثير من الجدل، وتعرض للتهديد بالقتل بسبب نقده للسياسة الخارجية الأمريكية.
في نفس الوقت أدان الاتحاد السوفياتي قبل انهياره فهو يقول عن الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي: "إحدى حقائق هذا الكون هي أن هناك قوتين عظميين، إحداهما ضخمة وصادف أن يكون حذاؤها على عنقك والأخرى قوة أصغر وصادف أن يكون حذاؤها على أعناق آخرين.
وأعتقد أن أي شخص في العالم الثالث سيقوم بخطأ جسيم إذا ما استسلم للأوهام حول تلك المسائل.
ويعتبر تشومسكي في نقده أن وسائل الإعلام في الولايات المتحدة تخدم إلى حد كبير "الكهانة المشتراة" للحكومة الأمريكية وشركاتها لخدمة مصالحهم المشتركة.
ولا يتوقف نقد تشومسكي للسياسة الأمريكية الماضية، وإنما يمتد إلى اللحظة الراهنة فقد أدلى بدلوه في مسألة عزل الرئيس دونالد ترامب وتوقعاته بشأنها.
وفي حوار أورده موقع "تروث آوت" الأمريكي توقع أن يتم عزل ترامب في البداية بواسطة مجلس النواب الذي يسيطر عليه المعسكر" الديمقراطي" ثم تتم تبرئته في مجلس الشيوخ الذي يهمين عليه "الجمهوريون".
وأردف: "المرجح أن يشكل الجمهوريون كتلة تصويت صارمة لصالح ترامب الذي سيعمد بعدها إلى الصعود في منبر الشعب وإعلان النصر والزعم بأنه مجددا استطاع حماية أصحاب الدماء الأمريكية الحقيقية من مكائد الدولة العميقة والنخبة الليبرالية الخائنة".
ورأى تشومسكي أن تعامل ترامب مع السياسة الخارجية في القضية السورية يؤكد أنه "رجل مخادع يمتلك إحساسا جيدا بالأشياء التي تحرك قاعدة التصويت التابعة له".
ولفت إلى أن ترامب صعد إلى السلطة بمساعدة سرد مناهض للشكل المؤسسي واستطاع جذب ملايين الناخبين الساخطين من خلال التعهد بـ"تجفيف المستنقع" في واشنطن، والترويج لأجندة سياسية خارجية وداخلية تحت شعار خدمة المصالح الأمريكية الوطنية والطبقة المتوسطة.
وأشار إلى أن تطبيق ترامب لذلك الأمر أدى إلى تأجيج الشعور العنصري بمعاداة الأجانب، وتسهيل صعود القومية البيضاء، وتآكل تحالفات عالمية راسخة شكلتها الولايات المتحدة بعد نهاية الحرب العالمية الثانية.
ورغم أن تشومسكي كان صهيونيا في بداية حياته، فإن صهينته كانت من "النوع التي يريد صاحبها قيام دولة اشتراكية في إسرائيل، يعمل فيها اليهود والعرب جنبا إلى جنب على قدم المساواة".
ورغم أنه عاش مع زوجته في كيبوتس في "إسرائيل" في عام 1953، فإنه اتهم لاحقا من قبل الأوساط الصهيونية بمعاداة السامية لأنه دافع عن حق أستاذ جامعي فرنسي في حرية التعبير في دفاعه عن حقوق الفلسطينيين، وهو الدفاع الذي ما فتئ تشومسكي يمارسه منذ عقود.
واعتبر تشومسكي أن "أنصار إسرائيل هم في الحقيقة أنصار لانحطاطها الأخلاقي ودمارها النهائي المحتمل"، ويعارض تشومسكي تأسيس "إسرائيل" كدولة يهودية قائلا: "لا أعتقد أن إيجاد دولة يهودية أو دولة مسيحية أو دولة إسلامية هو مفهوم صحيح، وكنت سأعترض لو أن الولايات المتحدة أسست كدولة مسيحية".
تشومسكي الذي يشدد على أنه ليس معجبا بـ"حماس" كحركة سياسية وحكومة، لكنه يعتقد أنها وصلت إلى السلطة في انتخابات ديمقراطية، مؤكدا أن غزة وشعبها "يتعرضان للإذلال والعزل والسحق".
وفيما يصف نقاد ومفكرون سياسات تشومسكي الخاصة بشكل واسع بأنها "فوضوية وراقية واشتراكية تحررية" في وقت واحد، فهو يواصل بصوت واهن لا يكاد يسمع، ونبرة وحيدة لا يغيرها على مدى 90 دقيقة وأكثر، إبقاء مستمعيه في حالة قلق وتوتر في محاولة منه لانتزاع التثاؤب عبر تعليقات لاذعة وساخرة تثير الضحك والحراك بين متابعي محاضراته وندواته ومقابلاته التلفزيوينة على مدى أكثر من 70 عاما هي عمره الأكاديمي.