قدم الفرنسي أنطوان جالان إلى الغرب - أوروبا كتاب "ألف ليلة وليلة" مترجمًا إلى الفرنسية بين عامي 1704م – 1717م، وقد حققت هذه الترجمة حالة من الهوس بالكتاب في فرنسا ثم اجتاحت أوروبا بأكملها منذ أوائل القرن الثامن عشر.
وقد ترجم كتاب "ألف ليلة وليلة" إلى اللغات الأوروبيّة الحديثة: الفرنسيّة، والإنجليزيّة، والألمانيّة، والروسيّة، والهولنديّة، والدانمركيّة، والبولنديّة، والإيطاليّة، والإسباينّة، والرومانيّة، واليونانيّة، والسويديّة، والهنجاريّة، وغيرها، وعرف غالبًا بتسمية "الليالي العربية".
ولاقى الكتاب اهتمامًا ملحوظًا على صعيد الدراسات الاستشراقية والاجتماعية، ولم يأتِ هذا الاهتمام في إطار التعرف إلى ثقافة مغايرة، أو دراسة أدب حضارة شرقية لغايات مختلفة فحسب، وإنما نظر إليه على أنه – كما يشير مؤلفا كتاب "موسوعة ألف ليلة وليلة أو الليالي العربية" في مقدمة الطبعة الإنجليزية أولريش مارزوف وريتشارد فان ليفن – قد أسهم في تعرف الغرب على هويته الخاصة، بقدر ما أسهم في فهم الغرب للشرق، وبالرغم من ذلك فلم يتم التعامل معه بوصفه عملاً أجنبيًا، وإنما الأمر على العكس من ذلك تمامًا، لقد تم إدماج "الليالي العربية" في طبقات عديدة من الثقافة الغربية.
لا يأتي هذا الرأي في تأثير "الليالي العربية" تحت تأثير حماس زائد من مؤلفي موسوعة "ألف ليلة وليلة"، بل إنّ ما يلفت الانتباه ما أثاره هذا الكتاب من اهتمام الأدباء والنقاد الأوربيين أنفسهم، الأمر الذي يسلط الضوء على أثر هذا الكتاب في الأدب الأوروبي الحديث من خلال آراء الأدباء والنقاد الأوروبيين وأقوالهم، ولعل في الإطلالة على بعض هذه الآراء ما يكشف عن أنّ هذا الكتاب قد عبر – على نحو فريد – عن مدنية الإنسان وتحضره أينما كان.
اقرأ أيضا : وفاة مترجم الأدب اللاتيني صالح علماني.. ترجم ماركيز وآخرين
فقد أشار شيخ المستشرقين الفرنسي سلفستر دي ساسي (1758 - 1838) إلى أثر العرب في تعليم الأوروبيين للابتكار، فقال في معرض تأكيده الأصل العربي للكتاب: "يجب أن نعد العرب معلمين لنا في ابتكار الأحداث الشيقة، والعناية والاهتمام المستمر من خلال عالم الأساطير المتألق للسحرة والعجائب، وما يجعل العالم أكثر اتساعًا وثراء وينمي القوى الإنسانية، وينقلنا إلى آفاق الروعة، ويثر دهشتنا حيال المفاجآت".
وعلق المستشرق الدنماركي ج. أويستروب (1867-1938) الذي ترجم كتاب "ألف ليلة وليلة" إلى الدنماركية في سياق تقييمه للكتاب ومكانته في روائع الأدب العالمي قائلاً: "فيما عدا الكتاب المقدس لا توجد سوى كتب قليلة حققت انتشارًا واسعًا وطافت أرجاء العالم مثل مجموعة الليالي العربية الشهيرة، التي عرفت تحت اسم ألف ليلة وليلة. فمن جهة اكتسبت الليالي أهمية مباشرة، لأنه لا يوجد - تقريبًا – أحد في العالم المتحضر لم يقرأ مرة واحدة على الأقل في حياته هذا الكتاب الممتع بسرور واهتمام، ولم يستوحِ منه عددًا كبيرًا من الصور المدهشة التي ظلت عالقة على الدوام في الذاكرة. من جهة أخرى اكتسب هذا الأثر أهمية غير مباشرة لأنّ أجيالاً متعاقبة من الكُتّاب والأدباء ظلت تنهل من نبعه الزاخر الذي لا ينضب بلا انقطاع".
وتكشف أقوال مشاهير الأدباء الغربيين عن عمق تأثير كتاب "ألف ليلة وليلة" في الأدب الغربي، فقد صرح الأديب الفرنسي فولتير (1694- 1778) أنه لم يصبح قاصًا إلا بعد أن قرأ "الليالي العربيّة" أربع عشرة مرة، وتمنى أن يصاب بفقدان الذاكرة حتى يعيد قراءتها ويستمتع بها مرة أخرى.
ويصف الكاتب النمساويّ الرومانسيّ هوجو فون هوفمنستال (1874 -1929)، الذي قرأ الليالي طفلاً وأعاد قراءته مرات في سن متأخرة، الكتاب بقوله: "نجد قصيدة شارك في تأليفها أكثر من شخص، ولكنها تبدو كأنها صدرت عن روح واحدة.
إنها كلٌّ، وعالمٌ بأكمله! إنّ هوميروس يبدو إذا ما قورن بهذا الكتاب شاحبًا وزائفًا. في هذا الكتاب يجد المرء ألونًا مشرقة وعمقًا شديدًا، واستيهامات مذهلة وحكمة عملية ثاقبة.
فيه يجد المرء مغامرات لا حدود لها، وأحلامًا وأقولاً مأثورة، وفواحش وأسرارًا. فيه الروحيّة الأكثر فسقًا والأغزر حسيّة في حالة جدليّة واحدة.
لا توجد حاسة من حواسنا لم يتم إيقاظها، من الداخل ومن الخارج معًا. إن كل شيء فينا ينشط، يُبعث من جديد ويغدو أكثر تقبلاً للمتعة".
ويرجع الكاتب الأرجنتيني جورج لويس بورخس (1899 -1986) ظهور الرومانسيّة إلى تأثير كتاب "ألف ليلة وليلة" بقوله: "عندما نشر جالان مجلده الأول عام 1704 أثار نوعًا من الفضيحة، لكنه في الوقت ذاته سحر فرنسا العقلانية التي كان يحكمها لويس الرابع عشر.
وعندما نفكر في الحركة الرومانسية فإننا نفكر عادة في تواريخ جاءت متأخرة، ويمكن القول: إن الرومانسية بدأت في اللحظة نفسها التي قرأ فيها شخص ما في باريس أو النرويج كتاب "ألف ليلة وليلة".
ويقر الكاتب الكولمبي غابرييل غارسيا ماركيز (1927 - 2014) بدينه لليالي قائلاً: "لولا عثوري مصادفة في مكتبة جدي على كتاب مهمل أوراقه صفراء تكاد تتمزق من فرط قدمه بعنوان "ألف ليلة وليلة" ما كان لي أن أصبح أديبًا. إن هذا الكتاب هو ما صنع مني أديبًا بعد أن سحرتني حكاياته".
ويؤكد الروائي والناقد الإيطالي أمبرتو إيكو (1932 - 2016) "أن الروايات الكبرى في الثقافة الغربية من "دون كيشوت" إلى "الحرب والسلام"، ومن "موبي ديك" إلى "الدكتور فاوست" قد كتبت بتأثير من ألف ليلة وليلة.
وهناك حقيقة فيما يبدو لا بد من الاعتراف بها وهي على الرغم من حضور نص الليالي الطاغي في الذاكرة والتداول الواسع الذي حظي به فإنه يحتل المكانة اللائقة به التي يسوغها تأثيره الملموس في دائرة التفكير الغربي إبداعًا وموروثًا.
ومع ذلك ستظل ألف ليلة وليلة حكايات تشبه نصًا مفتوحًا ولغزًا عميقًا وشفافًا يتشكل معناه في كل زمن وفي كل عقل".
إن مجمل هذه الآراء والأقوال وغيرها كثير تكشف – بحق – عن قيمة هذا الكتاب الساحر، وتأثيره العميق، ولعل المعاين لهذه الحالة الأدبية الفريدة التي يجسدها كتاب "ألف ليلة وليلة" بحكاياته المنوعة والمتعددة، وببنيته الفريدة التي تعبر عن اللانهائي كما قال بورخيس، تظهر أنّ الكتاب يمثل حالة من النضج والإحساس بالحضارة والمدنية الإنسانية على تنوعها وتعددها، ولعل هذا يجعله صعب التصنيف أو النسبة إلى أمة بعينها أو زمن بذاته.