صاحب نبوءة "العالم سيكون قرية صغيرة"، هو العالم والفيلسوف الكندي مارشال ماكلوهان، الذي قضى سنة 1980. وله نظريات في وسائل الاتصال الحديثة، وهي إرهاص علمي، واستقراء، وفيه شعر وحلم، وليس كهانة، فلم يُنقل عن أحد بأن ماكلوهان كان يحبُّ شرب القهوة العربية ذات الثفل والطين، وهي مقولة مجازية، وكل العلماء ورجال الفكر يؤكدون صحة المقولة، وفيها صحة، والعلل والأسقام فيها أكثر، ولا بد من إسعافها بالعجل إلى غرفة العناية المشددة، فالعلل فيها كثيرة:
العلة الأولى: إن القرية التي يريدها غير القرية في العربية، والقرية في العربية تطلق على المدينة، وعلى القرية، والأدلة على ذلك كثيرة في القرآن الكريم بدليل إطلاقها على اسم مصر، وفي مصر مدائن. والقرية كبيرة، فيها ست قارات وآلاف الألسن واللغات يبلغ عددها 6500 لغة، وآلاف الأديان يبلغ عددها 10 آلاف دين متميز، عدا عن المذاهب في الدين الواحد..
والأديان واللغات حواجز وأسوار، وبعض الأديان تحرّم الكلام مع الكفار أو لمسهم، وإن كان من الممكن التماس العذر للسيد ماكلوهان، فقصده مجازي، والصغر ليس بالحجم ولا بالمساحة، وإنما بسهولة الاتصال والحركة. فالطائرات تطير من بلد إلى بلد، لكن هناك جوازات سفر قوية وأخرى ضعيفة.. ويمكن أن نلتمس له عذراً آخر، إحساناً للظن، ربما منّى النفس بعودة أبناء آدم إلى القرية بعد فراق طال أحقابا.
العلّة الثانية: إن مختار القرية، أمريكا، مختار سيئ، شديد، ظالم، ديمقراطياً أو جمهورياً، يحب بناء الأسوار، وعلى حساب المحصورين والمسوّرين، وهو ليس مختاراً من شعوب القرية بالاختيار الحر، وإنما من الجمهور الأمريكي، الذي يقرر عن شعوب القرية، مصائرهم ومصائر القرية كلها، من انبعاث غازات سامة وأوزون. فالأمريكي هو أسوأ من سكن في هذا القرية الظالم أهلها منذ بدء الخليقة، وهو أول من استخدم الأسلحة المحرمة دولياً، فهي له حلال جانيا ولنا حلال ضحايا.
إن مختار القرية قد رضي بأسوأ فتوّات الحارات العربية، وهم أسوأ من فتوات أيام زمان الظلمة، فليس السيسي مثل مبارك، ولا مبارك مثل جمال عبد الناصر، ولا بشار الأسد مثل حافظ، وكلهم فتوات أحياء وحارات ذهبوا إلى ديار الحق، عاشوا محاربين على عربات مدفع تخويفا للشعب وماتوا محاربين على عربات مدفع تخويفاً للملائكة. وإنهم كانوا أوفياء لآبائهم، ويسيرون على خطاهم، النعل بالنعل والجزمة بالجزمة.. وهم أشحة على الخير، يقطعون النت عن حاراتهم، فتعود إلى القرن العشرين، وبعضهم أعاد حارته إلى القرن الثامن عشر، تبحث عن حطب أو جلّة فلا تجد، وتفكر في الصيد فلا تجد حيواناً واحداً تأكله، وكأنها انقرضت، وسوى ذلك أهالي حاراتهم محرومون من جواز السفر.. وسعر جواز السفر السوري غال، يعادل مهر عروس.. وهم أصلاً كما تجمع الآراء فتوات حجز وسجانين.
يؤكد جورج غالوي ومن في حكمه من الخواجات الفرنجة، وهو سياسي بريطاني محب لفلسطين، أن العالم قرية صغيرة، فهو يتنقل بين البلدان العربية من غير تأشيرة، ومن غير سلاح، فهي تحت الاحتلال بالانتداب غير المباشر، بينما يعجز العربي عن السفر من بيت إلى بيت، وهو ما يقابل من بلدة إلى بلدة في القرية الكوكب.
إن الحارات العربية في القرية الكوكب هي أسوأ الحارات وفيها أسوأ الفتوات، وأسوأ السجون في العالم، وسوى ذلك فيها سجون متنقلة على سفن، وأخرى خفية؛ لأن أمريكا سعيدة بأعمال الفتوات العرب الذين يسعون في ترفيه معتقليهم بالسياحة البحرية بين جرز الكناري ومالديف. الحارات نفسها سجون معزولة، اختير الفتوة فتوةً لها لحبس أهلها ومنعهم من الحركة باتجاه الشمال حيث الكلأ والمرعى.
إن الجار لا يعرف جاره في هذه القرية، على عكس أهل القرى القديمة، ولا يتصل الابن بأمه إلا عبر السكايب.. وقد يقع ابن قارة آسيا في حب بنت الجيران من قارة أوروبا عبر بلكونة الماسنجر، إذا استطاعا التفاهم بغير لغة الإشارة، وقد يتبادلان قبلات حمراء من لغة الرسوم والإيموجي.. نذكّر بأن صاحب المقولة له مؤلف بعنوان العروس الميكانيكية، وأن أجمل رواية في التاريخ وأول رواية في التاريخ هي رواية دون كيشوت، وهي قصة رجل ثار على الآلة والحداثة، وأن أجمل الأفلام هو فلم يهجو الحداثة هو أضواء المدنية لشارلي شابلن.
إن صاحب المقولة لم يكن يدرك أن الأمية ستخف بعد اختراع لغة الإشارة والإيموجي وهي لغة تشبه اللغة الهيروغليفية، ويستطيع الأمّي إرسال رسالة إلى صديقته الأمّية، لكن الأمية العقلية والجهل في زيادة، فالناس تفضل المشاهدة على القراءة، والمؤلفون انتقلوا من تأليف الكتب إلى إصدار يوتيوبات، ومن يكتبون إنما يكتبون بالعامية. فهم خرسان يحكون مع بعضهم بلغة الإشارة مثل الصم والبكم، وعبارة الانصهار في بوتقة يذكرها ماكلوهان، وهي مقولة كنا نسمعها كثيراً في خطب الرؤساء العرب. وقد صهرونا حقا في بوتقة الأشجان والأحزان والأفران.
إن كل إنسان في هذه القرية لديه هاتف فيه كاميرا، ويستطيع الاتصال بمن يريد غالباً، لكن لا قيمة لاتصاله، فلن يعترف أحد باتصاله ولا بصوره، ودليل ذلك آلاف الصور التي تبرزها الأخبار وتصحبها الفضائيات الرسمية بالقول إنها لم تؤكَد من مصدر مستقل، والمصدر المستقل يجب أن يكون غربياً، والغربي يجب أن يكون أشقر اللون، وألا يكون وافداً مثل البريطاني عباس خان، أو عيسى عبد الرحمن، وقد لا تقبل شهادته حتى لو كان أشقر مثل جوليو ريجيني ما دام المختار أو وجهاء القرية غير راضين عن عمله، ومن ذلك الحفاوة التي يلقاها الفتوة السيسي في عواصم العالم الغربي من أمثال ميركل وترامب مختار القرية، الذي يعتبر السيسي صديقه وفتوته المفضل، وفتوات الحارات العربية يتسابقون إلى فضله وفضلاته وخدمته للفوز برضاه.
مياه القرية ملوثة، أو تتلوث، ولم تعد الصبايا تذهب إلى السبيل تحمل جرار الماء إلى السبيل، بل إن الأزواج يذهبون إلى السوبر ماركت لشراء المياه المعدنية في علب بلاستيكية.
تسمع بصحيفة مدى مصر، فتعجب مرتين؛ مرة لأن صحيفة اشتهرت لأنها انتقدت ابن الرئيس، ومرة لأن فريقها نجا من الاعتقال لأن فيها صحفياً من فرانس 24. ولولا فرانس برس لما حفل بخبر مدى مصر أحد، وكان فريقها في السجن الآن.
تضخمت عملة الأخبار والفضائيات من صور وقصص حتى نزلت قيمتها كما تتضخم العملة وتعوم.
إن بعض الحارات بدأت تفكر في الهجرة إلى قرية أخرى، مثل فتوّة الإمارات الذي اشترى أراضٍ في قرية المريخ، وزرع فيها أعلاماً.
إن أصحاب القرية ووجهائها يحبون عقد القمم والمؤتمرات مثل سوتشي وجنيف ومؤتمرات حوار الأديان والسلام والبيئة.. وتجعلها مثل المسلسلات المكسيكية، لزرع الأمل البلاستيكي في النفوس.
إن الأدمغة في الأحياء العربية من القرية الكبيرة لذكائها، تنجح في عبور الحواجز، وهي تدفع لقاء السفر والنجاح إلى بلوغ الشمال كثيراً من المال، لكنها تعمل في مجال العضلات لا مجال الأدمغة غالباً.
في كل قرية مجنون، ومجنون قريتنا هو حاكمها، وهو فتوة الحارة أيضاً!
الخلاصة نتواصل بلا وصال في القرية الكبيرة، التواصل كثير والوصل أقل، دق السجناء على حيطان السجن كان أجدى من كل صورنا وأخبارنا على يوتيوب، لذلك أطلق فقهاء الشوق والحنين اسم الزمن الجميل على زمن القرية السعيد، زمن الحمام الزاجل، ورسائل الدخان التي وردت في عبارة ماكلوهان.