يزداد في أروقة صنع القرار بالاتحاد الأوروبي، في الآونة الأخيرة، الحديث عن فكرة "الجيش الموحد"، لا سيما من قبل ألمانيا وفرنسا، وسط تساؤلات عن خلفيات التوقيت، وعن إمكانية التوصل إلى صيغة تتفق عليها الدول الأعضاء، بعد أكثر من نصف قرن من الجدل حول العمل الدفاعي المشترك في القارة العجوز.
وكما هو الحال مع مختلف مجالات العمل الوحدوي في أوروبا، فإن رسم الحدود الفاصلة بين القرارين، الوطني والمشترك، يبقى مثار جدل دائم، يزداد سخونة مع تصاعد النفس اليميني القومي، ولكن أيضا عندما يتعلق الأمر بسيادة الدول على سياساتها الدفاعية والاستراتيجية.
ومؤخرا، برز الدور الفرنسي، بقيادة الرئيس إيمانويل ماكرون، في الدفع باتجاه تشكيل الجيش الموحد، سارقا الأضواء من القيادة الألمانية التقليدية للاتحاد، رغم رفض باريس للفكرة قبل عقود، ما أثار حديثا عن خلاف محتمل بين البلدين اللذين تعاونا تقليديا في توسيع الشراكة القارية وحمايتها من النزعات الحمائية.
وأوضح تقرير حديث لموقع "ستراتفور" الاستخباري الأمريكي، أن بروز الدور الفرنسي على الساحة الأوروبية إجمالا، وعلى المستوى الدفاعي المشترك بشكل خاص، يعود إلى عدة عوامل، بينها ارتخاء القبضة الألمانية نسبيا، مع قرب خروج المستشارة القوية، أنجيلا ميركل، من الحياة السياسية، وتراجع نمو الناتج المحلي الإجمالي للبلاد، وحاجة باريس، من جانب آخر، إلى الارتقاء بأدوارها الإقليمية والدولية لاحتواء أزماتها الداخلية، المتمثلة بتزايد الحركات الاحتجاجية وصعود اليمين المتطرف.
رد على الضغوط الأمريكية
وفي حديث لـ"عربي21"، قال الخبير في الشؤون الأوروبية، حسام شاكر، إن مساعي فرنسا وألمانيا للدفع باتجاه تشكيل جيش موحد يأتي في سياق الرد على تزايد ضغوط واشنطن على حلفائها، من قبيل المطالبة بإسهامات إضافية في تمويل حلف شمال الأطلسي "الناتو"، ودفع أموال مقابل الحماية الأمريكية.
وقال: "أرسلت الولايات المتحدة في عهد الرئيس دونالد ترامب إشارات متعددة إلى أوروبا مفادها أننا نحميكم وعليكم أن تدفعوا، وهو ما خلق شعورا بأن واشنطن لم تعد متحمسة كثيرة لتحمل أعباء الاستراتيجية الدفاعية نيابة عن أوروبا، ومن ثم ضرورة أن تعتمد دول القارة بدرجة أو بأخرى على نفسها".
اقرأ أيضا: ماكرون: حلف شمال الأطلسي في حالة "موت سريري"
بالمقابل، يوضح "شاكر"، أن أوروبا لن تكون قادرة على الاستغناء عن الولايات المتحدة حاليا، لا سيما مع تعاظم القوة الروسية، لافتا إلى أن ما يجري يأتي في إطار الرسائل المضادة من بروكسل إلى واشنطن، وإلى ذاتها، في والوقت نفسه، لتنبيه الدول الأعضاء إلى ضرورة البحث عن صيغة دفاعية مشتركة، دون الاستغناء عن التحالف الاستراتيجي مع الضفة الأخرى للأطلسي.
وأضاف أن الوصول إلى رؤية مشتركة لتخفيف الاعتماد على الناتو، ومن ثم على الولايات المتحدة، لن يحدث في المدى المنظور، لا سيما مع وجود رفض للفكرة في وسط وشرق القارة، التي تتخوف بشكل متزايد من فقدان قرارها السيادي لصالح الدول المركزية في الاتحاد، فضلا عن حساباتها الجيوسياسية الخاصة، لا سيما إزاء الجارة العملاقة روسيا.
"حساسية ألمانية"
ينتشر على الأراضي الألمانية نحو 40 ألف جندي أمريكي، بحسب تقرير لموقع قناة "دوتشه فيله" الألمانية، وهو أكبر تواجد عسكري للولايات المتحدة خارج أراضيها، بعد اليابان، وقد طالبت واشنطن البلدين، بالإضافة إلى كوريا الجنوبية، بشكل متكرر، في الآونة الأخيرة، بدفع مليارات الدولارات مقابل الحماية، وهو ما أثار انزعاجا في عواصم الدول الثلاث.
ولفت تقرير حديث لـ"ستراتفور" إلى أن تلك الضغوط الأمريكية ستدفع الدول الثلاث إلى تعزيز قدراتها الذاتية على المديين المتوسط والبعيد، ولا سيما ألمانيا، التي قد ترى أن اهتمام الولايات المتحدة بنشر قدرات عسكرية في بولندا سيشكل درعا لها من أي خطر روسي محتمل.
إلا أن "شاكر" أوضح أن عرف العلاقات الأمريكية الألمانية، منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، يفرض حساسية مفرطة على أي توجه من برلين نحو أي استقلالية دفاعية عن واشنطن، وهو ما أتاح للنبرة الفرنسية بالبروز في الآونة الأخيرة.
وأشار في هذا السياق إلى تعقد موقف ألمانيا، جراء حسابات جيوسياسية وتاريخية واقتصادية، حيث هي بحاجة كبيرة إلى الحاضنة الأوروبية، من جهة، وإلى علاقة استراتيجة مع أمريكا من جهة ثانية، فضلا عن ضرورة تجنب صدام مع روسيا القريبة.
وأضاف أن واشنطن "بعثت برسائل نقدية متعددة إلى برلين مؤخرا، وبخاصة في الشأن الدفاعي، والمطالبات التقليدية بزيادة الإنفاق العسكري ومساهمتها في تمويل الناتو (..) لكن الحسابات الألمانية الخاصة ما تزال تشكل عائقا أمام استقلالية كاللتي تتمتع فرنسا بها نسبيا".
اقرأ أيضا: باريس تعلن عن "تحالف بحري أوروبي" مقره أبوظبي
وختم بالقول: "تبقى الولايات المتحدة الشريك الاستراتيجي الأهم لأوروبا، وأي صيغة تتفق عليها دول القارة لن تكون بشكل من الأشكال، في الأمد المنظور، بديلا للأواصر الاستراتيجية الراسخة مع واشنطن، وإن تكرر إزعاج ترامب للأوروبيين".
وفي سياق ذلك "الإزعاج"، والضغوط الأمريكية، أشارت عدة تقارير إلى توجه الإدارة الأمريكية نحو تجميد مساهمتها في ما يعرف بـ"الموازنة المشتركة" للناتو، وهي خطوة رمزية نسبيا، إذ إن تلك الموازنة لا تجاوز قيمتها 2.5 مليار دولار، فيما التمويل الأساسي لأنشطة الحلف يأتي من "موازنات الدفاع القومي"، عبر اقتطاع 2% على الأقل من الناتج القومي الإجمالي لكل دولة عضو.
وتأتي الخطوة قبل أيام من إحياء الحلف ذكرى تأسيسه السنوية الـ70، واجتماع قادة الدول الأعضاء بلندن، في رسالة تحذيرية مسبقة، لا سيما لألمانيا، بضرورة الخضوع للمطالب التي يتوقع أن يضعها ترامب على الطاولة، وهو المعني بجلب المزيد من الأموال إلى البلاد قبل الانتخابات الرئاسية، العام المقبل، والتي يريد الفوز فيها بفترة ثانية.
بينها 3 عربية.. أكثر 10 دول إنفاقا للتأثير على واشنطن (إنفوغراف)
أمريكا وفرنسا تتنافسان على تعزيز أمن الخليج بعد هجوم السعودية
أزمة "سوخوي 35" الروسية.. هل يقتدي السيسي بأردوغان؟