ليس غريبا ما تشهده الليرة السورية اليوم من تراجع متسارع أمام العملات الأجنبية، حيث تجاوز سعر صرف الدولار الواحد 750 ليرة، وليس غريبا أن يصدر النظام، في الوقت ذاته، مرسوما بزيادة 20 ألف ليرة (نحو 27 دولارا) على رواتب المدنيين والعسكريين، في محاولة لتنشيط حركة السوق والقدرة الشرائية وتخفيف ما يعتمل في نفوس المعوزين من غضب ونقمة، ولكن الغريب هو إصرار السلطة السورية على الترويج لأوهامها في ربط ما يحصل بمؤامرة كونية للنيل من موقفها الممانع، وبالعقوبات الاقتصادية الغربية التي فُرضت عليها، وبما تعدّه حملات إعلامية خارجية مضللة تزعزع الثقة بالليرة والاقتصاد وتشجع هجرة الاستثمارات ورؤوس الأموال، بما هو إصرار، كعادتها، على تجاهل ما صنعته أياديها، وإنكار الأسباب الحقيقية التي تقف وراء هذا التدهور الاقتصادي غير المسبوق.
أولا، تجاهل ما خلفه العنف السلطوي المفرط واستباحة مختلف وسائل الفتك والتنكيل من تدمير لأجزاء كبيرة من البنية التحتية الضرورية لأي عملية إنتاجية، ومن تخريب مساحات واسعة صالحة للزراعة وتعطيل العديد من المنشآت الصناعية والقدرة على استثمار الثروة النفطية، وتدمير قطاع السياحة وتهجير ملايين السوريين من أصحاب الكفاءات العلمية والمهنية.
ثانيا، أن رفض المعالجة السياسية والإصرار على الخيار الأمني والاستمرار بتوجيه مختلف موارد البلاد لاستجرار السلاح ولتغطية تكاليف العمليات العسكرية، أفضى لاستنزاف خزينة الدولة من العملات الصعبة، وتحجيم الدخل القومي بشكل كبير جدا بخسارة الكثير من مصادره التجارية والزراعية والصناعية والباطنية.
ثالثا، حين تحتل سوريا المرتبة 178 عالميا ضمن قائمة أسوأ الدول في الفساد، ولا تترك خلفها سوى الصومال، وحين تتضاعف أرقام ودائع أهم ضباط ورجالات النظام في بنوك سويسرا والإمارات وروسيا، وحين يتسع دور السوق السوداء برعاية مسؤولين كبار وأمراء الحرب وتجارها، ومليشيا «حزب الله» اللبناني و«الحرس الثوري» الإيراني، وتغدو متحكمة إلى حد كبير، ليس فقط في سوق القطع الأجنبية بل في حاجات المواطنين الأساسية، حينها يمكن تقدير الآلية التي تُنهب من خلالها أموال السوريين وثرواتهم، ويمكن الاستنتاج أن زيادة الأجور المتواضعة لن تعوض الخسارة الناجمة عن الفساد وتراجع قيمة الليرة وجنون الأسعار، ولن تنتشل العاملين في الدولة من مستنقع الفقر والحرمان، فكيف الحال مع العاملين خارج مؤسسات الدولة وملايين العاطلين عن العمل!
رابعا، صحيح أن العقوبات الاقتصادية الغربية أدت دورا مهما في مفاقمة أزمة الاقتصاد السوري، لكن العقوبات التي فرضتها واشنطن على طهران أدت دورا أكثر أهمية، فقد كان النظام السوري مطمئنا للدعم الإيراني ومعتمدا عليه لتخفيف مصاعبه الاقتصادية، لكن بعد أن رزحت طهران في العامين الأخيرين تحت وطأة حصار اقتصادي دولي كبير، لم تعد تستطيع تحمل تكاليف هذا الدعم، فاقتصرت مساعداتها على إمدادات النفط وبعض التوريدات العسكرية.
خامسا، هروب رؤوس الأموال، ليس فقط بسبب مناخ الحرب وتردي الوضع الأمني، وإنما بسبب انتشار مرعب لظاهرة الابتزاز المالي، إنْ بعمليات الخطف والمبادلة، وإنْ بفرض أتاوات عند الحواجز على الأشخاص الذين يعبرون من منطقة إلى أخرى وعلى السيارات المحملة بمنتجات زراعية وصناعية، وإنْ بإجبار التجار والمستثمرين على دفع مخصص شهري لمركز أمني أو عسكري يدّعي حمايتهم، فمثلا بلغ حجم رؤوس الأموال السورية المهاجرة إلى تركيا ومصر والأردن ولبنان، ما يقارب 35,7 مليار دولار باعتراف حكومات هذه الدول، عداكم عن رؤوس أموال وُظفت بالتشارك مع مستثمرين أجانب، وعن أموال مهاجرين سوريين استُثمرت لإنشاء مشاريع صغيرة في ألمانيا وكندا.
والحال، أنه على الرغم من تغير خريطة الصراع وتقدم قوات النظام في حربها ضد فصائل المعارضة المسلحة ومحاصرتها في مدينة إدلب وأريافها، فإن الرياح الاقتصادية لم تجرِ وفق ما تشتهيه سفن النظام، بل قادت السوريين من سيئ إلى أسوأ، لتتفاقم أزمتهم المعيشية وخسائرهم الاقتصادية مع كل يوم جديد.
تقول التقارير الأممية، إن نسبة البطالة ارتفعت إلى 78% وثمة نحو تسعة ملايين سوري عاطل عن العمل، بينما ازدادت الأسعار بشكل عام بين 2011 و2019 نحو 14 ضعفا، كما أن الاقتصاد السوري خسر 226 مليار دولار من إجمالي الناتج المحلي وهو ما يعادل أربعة أضعاف إجمالي الناتج المحلي عام 2010، فضلا عن دمار 7% من المساكن والمباني والمنشآت العامة كليا و20% جزئيا.
وتضيف تقديرات الأمم المتحدة أن سوريا تحتاج إلى 250 مليار دولار لإعادة الإعمار، وأن معدلات الفقر والعوز المالي ارتفعت بشكل حادّ من 33% إلى 80% وصار أكثر من نصف المجتمع، أي ما ينوف على 12 مليون سوري، بحاجة إلى شكل من أشكال المساعدات الإنسانية المختلفة، كالغذاء والمياه والمأوى والصحة والتعليم، وباتت العائلة السورية، المكونة من 6 أفراد، بحاجة إلى دخل شهري يقارب 300 ألف ليرة سورية أي ما يعادل اليوم 400 دولار، لتوفير أهم المستلزمات والحاجات المعيشية.
إن النتائج المأساوية التي خلّفها الصراع الدموي، واستمرار سلطة ما تزال مطمئنة لانعدام أي رد فعل عالمي جدي ضد عنفها المفرط، لا يثيران التفاؤل بانتفاضة شعبية سورية ضد الجوع والفساد أسوة بما يحصل في لبنان والعراق وإيران، ولا يشجعان على القول بأن تدهور الوضع الاقتصادي والمعيشي سوف يغيّر المشهد، ويقرّب النظام من سقوط عجزت عنه الوسائل السياسية والعسكرية، بل ما يمكن قوله إن هذا التدهور يكشف مدى العجز والارتهان الذي وصل إليه النظام، والكوارث التي ألحقها وسيلحقها بالبلاد ومقدراتها، كي يحافظ على سلطته وامتيازاته، ويفضح وجوه الفساد والاستئثار واللصوصية التي يستخدمها رجالاته في إدارة الاقتصاد ولإعادة إنتاج هيمنتهم وامتيازاتهم، والأهم أنه يُظهر حقيقة أنْ لا مستقبل للسوريين من دون تغيير جذري في نظام الحكم وأساليبه، من دون التمسك بحل سياسي يستند إلى العدالة الانتقالية كخطة طريق واجبة لخلاص مجتمع طحنته الحرب الأهلية، ومثقل بتركة من الانتهاكات والجرائم والظلم، وبغير ذلك لا يمكن توفير المناخ المشجع للبدء بإعادة الإعمار وبعودة ملايين السوريين إلى وطنهم، وقطع الطريق على أطراف خارجية تتطلع بنهم للسيطرة على مقدرات البلاد ومستقبل شعبها.
(الشرق الأوسط اللندنية)