يكمل الصحفي الأردني عبد الرحمن فرحانة هذه الأيام نحو 300 يوم في السجن السعودي، بلا تهمة، ولا محاكمة..
مجرد موقوف ينتظر ما لا يعلم!
عبد الرحمن ليس مجرد زميل مهنة لي، ولا مجرد قريب.. عبد الرحمن هو شقيق الروح الذي رافقته منذ كنا أطفالا، في عمر أيام، وحتى اشتعل رأسانا بالشيب. هو أكثر من أخ وأكثر من صديق وأكثر من قريب، ولهذا حينما جاءني خبر اعتقاله (أو غيابه، أو خطفه، في
السعودية) نزلت صخرة عنيدة على رأسي، ولم أتمالك نفسي إلا بعد أيام، وحتى مع مرور كل هذه المدة على تغييبه أو غيابه، لم تزل صورته ملتصقة بكل المشاهد التي أراها في اليوم والليلة، فهو لا يكاد يفارقني أبدا بضحكته المجلجلة، أو "سرحانه" الفجائي وهو يفكر بحال الأمة، باعتباره شأنا شخصيا بحتا!
قبل خطفه من قبل السلطات، كنت أنا وإياه في اسطنبول، في صحبة عائلتينا، قضينا وقتا مع أسرتينا، كان من أجمل ما مر بي. أصر عبد الرحمن في اليوم الأخير أن يكرمنا أيما كرم، فقد استأجر سيارة كبيرة، وجال بنا في معالم إسطنبول، رغم أن الجو كان عاصفا وماطرا وضبابا معظم الوقت، وكان حينها يحدثني عن مخاوفه من التغييرات التي تضرب منطقتنا، وسيطرة العدو الصهيوني على صاحب القرار العربي. ولم تمض غير بضعة أيام قليلة بعد عودته إلى الدمام، إلا وخبر اعتقاله ينزل على رأسي كما الصاعقة!
صبرنا على الخبر ما يقارب الشهر، أملا في أن يكون الاعتقال "غمامة صيف" وتزول، لكن القصة طالت،
فأخبرنا وزارة الخارجية في الأردن بالخبر، وأبلغت أيضا نقابته،
نقابة الصحفيين الأردنيين، وأوصلت الخبر لكل
منظمات حقوق الإنسان وحرية التعبير، وتناقلت وسائل الإعلام
ومنصات التواصل الاجتماعي خبر اعتقاله، بل لم تبق تقريبا وسيلة إعلام إلا ونقلت الخبر، باستثناء طبعا تلك التي تدور في فلكهم، بل إن سفارتهم في عمان تواصلت معي، وطلب المستشار الإعلامي مني صورة عن جواز سفر عبد الرحمن لـ "متابعة" قضيته وإخباري بما جرى معه، وهذا ما فعلته، إلا أن المتابعة استمرت حتى الساعة، فلا حس ولا خبر!
ماذا يأكل؟
هل يتناول دواءه بانتظام؟ فهو مريض ضغط وسكري، ويعاني من ضعف التروية الدماغية، ويفقد جراء هذا الأمر توازنه أحيانا، ولم يسمح له بأخذ أدويته حين أخذ من بيته!
كيف أمضى شهر رمضان المبارك؟
هل سمح له بالصلاة جماعة؟ هل صلى التراويح؟ ما وزنه الآن بعد قرابة 300 يوم من الاعتقال؟
عشرات الأسئلة تدور في رأسي ورؤوس أسرته الصغيرة، المقيمة في عمان، وكلما زرتهم في بيتهم في عمان، شعرت أنني في منطقة انعدام وزن، فلم أعتد أن لا أرى عبد الرحمن في بيته.. كل حائط فيه، وكل كرسي، وكل آنية، تسألني عنه: أين صاحبك وحبيبك، وصديقك؟ أمِن المروءة أن تتركه أسيرا في سجون "الأشقاء!" وأنت تأكل وتشرب وتنام وتصحو؟
كم أخشى أن تطول الغيبة يا أبا الحارث!
بل لقد طالت فعلا، وأنت في قبضة سجن لا نكاد نعرف عنه شيئا في بلاد "خادم الحرمين" الشريفين، وكل ما أعرفه عنك من تهم أنك تحب بلادك وأمتك، ودينك، وقومك كلهم، بمن فيهم أهل الجزيرة العربية والسعودية تحديدا، فكم وقفت في وجهي ودافعتَ عنهم، كلما شط بي الكلام منتقدا بعض تصرفاتهم، وها أنت عشت بين ظهرانيهم أكثر من ثلثي ما مضى من عمرك ثم يعتقلونك، بلا تهمة أو محاكمة!
300 يوم يا عبد الرحمن، وأنت في "غيابة الجب" صحيح أن أسرتك زارتك، وجلست معك، وقرت عينك برؤيتهم، ولكنهم حينما عادوا إلى البيت، لم تعد معهم، بل إنك توليت عملية رفع معنوياتهم، وحقنهم بجرعات مكثفة من الصبر، وأي صبر يمكن أن يداوي غياب رب أسرة عن أسرته كل هذه الأيام والأشهر؟
السؤال الذي يقتلني هو: لِمَ يعتقلك قوم عشت معهم نحو أربعين سنة، ولو كنت في بلد غير بلدهم من بلاد "الكفار" لأصبحت رئيسا للوزراء أو عضوا في البرلمان، أو على الأقل لنلت جنسيته وتمتعت بحقوق مواطنيه؟!
ماذا تفعل في السجن؟ هل أنت أسير أم رهينة؟ وكل جريرتك كما أعلم أنك صاحب رأي وقلم وموقف، وتحب فلسطين كما يحب طفل أمه؟ هل أصبح هذا الحب تهمة، حسب أوامر السيد القابع في تل أبيب؟
قبل أيام، كنت في زيارة لأسرتك، وإذ بك على الطرف الآخر من الدنيا، ويومها، سمعت صوتك، الذي جاءني بعد طول غياب، كيف الصحة والأحوال؟ سألتني وسألتك، وكالعادة نقول: الحمد لله على كل حال، ونحن كلانا نعام أننا لا نقولها إلا من باب: الحمد لله الذي لا يحمد على مكروه سواه!
إنني من هذا المنبر أحمل السلطات السعودية المسؤولية كاملة عن حياة عبد الرحمن، وأعدها أن أكرس بقية ما بقي من عمري لنصرة عبد الرحمن وإخوانه
المغيبين في سجون لا نعلم عن ظروفها شيئا، حتى يتم الإفراج عنهم، وعودتهم إلى ذويهم سالمين معافين، فليس مسموحا لنا أن نسكت، عن ظروف اعتقال أردنيين وفلسطينيين في السعودية وفي كيان العدو الصهيوني، بالتهمة نفسها: التعاطف مع المقاومة الفلسطينية، فتلك من عجائب الزمان، فهذه ليست بلاد الحرمين التي نعرفها، ولا نريد أن نعتقد ولا للحظة أن الفرصة فاتت لعودتها إلينا وعودتنا إليها!