في عام 2015 نشرت جريدة أخبار الأدب المصرية فصلا من رواية "استخدام الحياة" للمصري أحمد ناجي، وعلى إثر ذلك تقدّم أحد المواطنين بشكوى على الكاتب والجريدة بدعوى أنّ المادة المنشورة خدشت الحياء العام الأمر الذي تسبب له باضطراب في دقات القلب ومشاكل صحية أخرى.
بعدها تم توقيف الروائي ناجي ليدخل في متاهة المحاكم التي بدأت بإعلان البراءة من قبل المحكمة، ثم الحكم بالسجن لمدة سنتين والغرامة المالية بعد الاستئناف، لينتهي به المطاف بقبول النقض التي تقدم به، وأُبطل الحكم بعد نحو عام من السجن.
هذه الحادثة ستحضر بشكل يبدو ثانويًا للوهلة الأولى في فيلم "ليل خارجي" للمخرج المصري أحمد عبدالله السيد (إنتاج 2018)؛ غير أنه بعد قراءة مَشاهد الفيلم وربط بعضها ببعض سيكتشف المُشاهد أنّ هذه الحادثة هي الحدث الرئيسي في الفيلم وجميع فصول الفيلم الأخرى متعلّقة بها.
يربط المخرج أحداث فيلمه من خلال تقاطع قصص خمس شخصيات رئيسية: ثلاث منها موجودة في واقع الفيلم: محمد عبدالهادي وهو مخرج أفلام شاب أخرج فيلمه الأول ويطمح لتجاوز عقبات إخراج الفيلم الثاني، وله صديق روائي مسجون بسبب روايته التي تسببت بخدش الحياء العام –المقصود هنا الروائي أحمد ناجي- لذلك فإنه سيشارك في تصوير مقابلة مع صديقته "دينا" التي تنتج فيلما وثائقيا عن الحادثة تضامنا مع حرية التعبير.
ستتقاطع شخصية المخرج مع شخصية مصطفى سائق الأجرة المكلّف بتأمين مواصلاته، وهي شخصية شعبية مركبة تحمل بداخلها كل تناقضات ابن الأحياء الشعبية التي تجعله يتأرجح بين الرغبة التي قد تصل به حد التحرّش وبين الشهامة والطيبة، وبين الحرص على المنظومة الأخلاقية وانتهاكها في الوقت نفسه، وبين احتقار المرأة وإهانتها في مقابل الحرص على حمايتها وسترها كما يفعل في نهاية الفيلم حينما يعرض الزواج على فتاة تجسد دور "عاهرة".
وهذه الأخيرة هي الشخصية الثالثة التي تتقاطع معهما؛ إذ تصعد مع السائق في اليوم السابق وتكون في حالة سكر شديدة فيأخذها إلى بيت ابن أخته لتنام هناك، تستفيق في اليوم التالي –وهو اليوم الذي يكلّف فيه السائق بإيصال المخرج- لتثير مشكلة حينما تتهم السائق بأنه سرق منها المبلغ المالي الذي كان بحوزتها، فيضطر إلى تغيير اتجاهه وتُحل مشكلة المال حينما يتطوّع المخرج بدفع المبلغ أملاً بقضاء ليلة معها، فيتقاطع بذلك مصير الشخصيات الثلاث في سيارة أجرة تأخذهم في رحلة عبر ليل القاهرة الطويل.
الشخصية الرابعة هي شخصية متخيّلة في ذهن المخرج عن بطل فيلمه القادم، وهي شخصية شاب مصري معدم يقرر الهجرة بطريقة غير شرعية عبر البحر كي يحقق أحلامه ويتزوّج من الفتاة التي يحبها، لكن القارب يغرق ويعاني كثيرًا قبل أن يتمكّن من النجاة والعودة إلى بلده.
أمّا الشخصية الخامسة فهي شخصية حقيقية تعيش خارج الفيلم وهي التي تدور أحداث الفيلم حول قضيته.
من خلال إمكانيات بسيطة وتكاليف منخفضة يصنع لنا المخرج فيلمًا عن عالم القاهرة الليلي، هذا العالم المستتر أو المتوافق على الصمت عنه بما فيه من قسوة ومعاناة وألم، وبما فيه من فرح ولذة يعيشهما أو يسرقهما أبناء هذا العالم قي الظلمة.
وهو يقدّم هذا العالم كعالم باطني تحتاج لولوجه إلى من يقودك في متاهاته، وليس هناك من هو بكفاءة سائقي الأجرة ليقوم بالمهمة؛ لذلك جاءت الرحلة عبر سيارة الأجرة لتسلّط الضوء على أبرز ظواهر هذا العالم مثل شرب الحشيش وتعاطي المخدرات والصراع على العاهرات وأعمال البلطجة والتحرّش والتمييز في المعاملة بين فئات الشعب في أقسام الشرطة.
وهنا يكشف أحمد عبدالله عما يريد الآخرون الصمت عنه وبسببه سُجن الروائي، إذ يُراد إلى أن يكون الوجه النهاري/ الرسمي هو وجه المدينة والناس الذي يجب أن يتحدّث الروائيون والمخرجون عن مشاكله وهمومه، أمّا الوجه الليلي/ الباطني فهو منذور للصمت.
ويظهر ذلك في الحوار بين السائق وصديقة المخرج "دينا" إذ يبدي السائق تأييده لسجن الروائي وتأديبه لخروجه على قيم المجتمع ولكن حينما تسأله عن واقع الحياة التي يعيشها وإذا ما كان يستخدم الشتائم في حواراته يجيب بأنه ابن منطقة شعبية والشتائم أمر يومي في حواراتهم يدخل حتى في التحية الصباحية.
إنّ الفيلم/ الرحلة عبارة عن مرافعة طويلة غير معلنة عن الرواية والروائي المتهمين بخدش الحياء العام، إذ يقول لنا المخرج من خلال رحلة سيارة الأجرة في "ليل خارجي" إنّ الواقع أقسى بكثير مما جاء في الرواية، وكي تتعرّف إلى قسوته يجب أن تنزل إلى هذا العالم وتعايشه.
ويأتي سائقو الأجرة كمثال للإنسان الذي عايش هذا العالم وخبرَ قسوته؛ لذلك نجد مخرج الفيلم يظهر في دور قصير هو دور سائق الأجرة متعاطٍ للحشيش، كما يظهر الروائي أحمد ناجي في دور سائق الأجرة أيضًا، وكأن هذا المخرج المعروف بأفلامه المستقلة والتجريبية يريد أن يقول إن كل ما فعله ناجي وما سأفعله أنا من خلال الفيلم أننا تحدثنا عن الحياة كما هي وكما شهدناها وخبرناها دون مكياج أو عمليات تجميل؛ إذ لا شيء خارج السياق العام كي يخدش حياءه.