لا تزال العين على تونس في المنطقة، ولا تزال مسارات كل حدث فيها تغريك بأن تراقب وتتابع في دهشة، ولا تزال تجربتها السياسية على امتداد هذا العقد من الزمان تبدو تجربة فريدة من نوعها، ربما لأنها أول بلد عربي عرف ما يسمى «الربيع العربي»، فمن هناك انطلق ثم مضى يوزع كؤوسه على عواصم العرب، وربما لأنها الدولة العربية الوحيدة التي قفزت فوق ربيعها بأقل الخسائر الممكنة، وربما لأنها قالت وتقول في كل استحقاق تمر به، إنها قادرة على استيعابه وتجاوزه!
وقد عَبَرَت تونس فوق استحقاقين انتخابيين خلال شهر واحد، ثم بقي استحقاق قد يكون أهم من الاثنين؛ لأنه ليس كمثلهما، ولأنه يتصل على نحو مباشر بتصريف حياة الناس!
كان الاستحقاق الأول هو استحقاق الرئاسة، الذي كشف عن مفاجأة لم تكن في حسبان كثيرين ممن راقبوا، وتابعوا، وحللوا، ووصلوا إلى نتائج رصدوها وكتبوها!
فاستطلاعات الرأي قبل الذهاب إلى صندوق الاقتراع، كانت تشير كلها دون استثناء إلى أن كرسي الرئاسة محجوز لفلان أو علان، من أصحاب الأسماء السياسية الكبيرة، ولكن النتيجة جاءت منذ الجولة الأولى على غير ما اشتهى الذين استطلعوا، وتوقعوا، وتنبأوا. ولماذا لا تأتي هكذا، وقد جاء رجل من آخر الصف، ليتصدر المشهد في الجولتين الأولى والثانية؟! وكان هذا الرجل هو الرئيس قيس سعيد، الذي سيكون قد وقف يؤدي اليمين الدستورية عندما ترى هذه السطور النور!
ومن حُسن حظ تونس أن أمراً بإخلاء سبيل نبيل القروي، قد صدر قبل الجولة الثانية بأيام، فالقروي كان هو المرشح الذي نافس المرشح سعيد في الجولة الثانية، وكلاهما كان قريباً من القصر إلى لحظة الإعلان عن اسم الفائز، وقد كان غياب القروي وراء الأسوار، دون صدور حكم بالإدانة ضده، كفيلاً بالطعن من جانبه في العملية الانتخابية كلها، وكفيلاً بالحديث عن أن عنصر المساواة قد غاب عن المباراة!
صحيح أن الأيام الفاصلة بين إخلاء سبيله وبين يوم الاقتراع، كانت أقل من أصابع اليد الواحدة، ولكنه صار حراً طليقاً قبل الاستحقاق، ولم يعد هناك مبرر عنده للطعن ولا للتشكيك، على نحو ما كان محاموه وكثيرون من مؤيديه قد راحوا يلوحون ويهددون، ولذلك، سارع بمجرد الإعلان عن فوز سعيد بتأكيد أنه لن يطعن في النتيجة، ولن يتحدث عن عدم مساواة فيها!
وقد كان للمرشح سعيد نفسه دور مهم في دفع المسؤولين عن العملية الانتخابية، إلى التأسيس لمبدأ المساواة بين طرفي المنافسة، وكان ذلك عندما أوقف حملته الانتخابية خلال الأيام المخصصة للدعاية في الجولة الثانية، احتجاجاً منه على أن المرشح المنافس لا يتمتع بالحقوق المتاحة له نفسها!
كان هذا هو الاستحقاق الأول الذي شهد أداءً هادئاً وراقياً على ثلاثة مستويات: مستوى 24 مرشحاً خاضوا الجولة الأولى، ومستوى مرشحين اثنين خاضا الجولة الثانية، ثم مستوى الناخب ذاته الذي أدى بدرجة عالية من الإحساس بالمسؤولية!
وكان الاستحقاق الثاني مكانه في البرلمان، وكان قد شهد منافسة بدت قوية وساخنة، وكان دليل قوتها وسخونتها أن حزباً من الأحزاب التي خاضت الانتخابات، لم يحصل على الأغلبية التي تؤهله لتشكيل الحكومة بمفرده، فمقاعد البرلمان 217 مقعداً، وعلى كل حزب يتصدى لتشكيل الحكومة أن يضمن 109 من المقاعد في يده، فإذا لم يتيسر له وحده هذا العدد، فليس أمامه سوى تأمينها بالتحالف مع بقية الأحزاب التي خاضت السباق، ولا بديل آخر أمام الحزب الذي يتصدى للمهمة!
وهذا بالضبط هو الاستحقاق الثالث الذي قصدته، أقصد استحقاق تشكيل حكومة جديدة تستند إلى نتيجة انتخابات البرلمان، فسباق الرئاسة بلغ غايته، وعرفنا أن قيس سعيد هو ساكن قصر قرطاج لخمس سنوات مقبلة، وسباق البرلمان وصل إلى نهاية المطاف هو الآخر، وعرفنا أن حزب حركة «النهضة» الإسلامية، هو صاحب الكتلة الأكبر في عدد مقاعده، وأنه بالتالي صاحب الحق في قيادة مشاورات تشكيل الحكومة الجديدة، وأن هذا الحق لن يكون من نصيبه إلا تحالفاً مع سواه من الأحزاب!
ولكن المشكلة أن حركة «النهضة» لا تملك أغلبية تسعفها في التشكيل، دون مشاورات مع بقية الأحزاب، فالحركة حصلت على 52 مقعداً، وهذا رقم دون النصف زائد واحد بكثير، وهي لا تزال في حاجة إلى 57 مقعداً على الأقل، لتقول إن أوراق الحكومة الجديدة في يديها!
وهذا تحديداً هو الاستحقاق الصعب، وربما يكون الأصعب، وأخشى أن يمر راشد الغنوشي، رئيس حركة «النهضة»، بالتجربة ذاتها التي مر بها عبد الإله ابن كيران في المغرب، عندما تصدى لتشكيل الحكومة الحالية في الرباط، فعجز عن تشكيلها على مدى أكثر من ستة أشهر، ولم يكن أمام العاهل المغربي الملك محمد السادس، إلا أن يكلف رجلاً آخر من حزب ابن كيران الحاصل على أكثرية المقاعد!
ولم يكن أمام ابن كيران إلا أن يأخذ خطوة إلى الوراء، ليتقدم سعد الدين العثماني، القيادي في حزب «العدالة والتنمية»، ويحصل على تكليف الملك، ويشكل الحكومة التي تحكم حالياً، والتي يتحالف فيها حزب ابن كيران والعثماني مع أربعة أحزاب!
وحزب «العدالة والتنمية» حزب إسلامي، ولكن القيادة فيه لا تفضل أن يقال عنه إنه إسلامي، وتحب أن يوصف دائماً بأنه حزب ذو مرجعية إسلامية، ويرجع التمسك بهذه التسمية إلى الرغبة في التأكيد على أن الحزب متصالح مع العصر، وأنه ليس منغلقاً على نفسه، وأنه منفتح على الآخرين ويقبل بهم، وأنه ليس مقيماً في مقاعد الماضي، وأنه موجود بين الناس وراغب في تحقيق الصالح العام!
وقد بدا في المغرب أن تعثر ابن كيران في التشكيل، كان راجعاً إلى تحفظات على التعاون معه، أكثر منها تحفظات على التعاون مع حزبه، وكان الدليل أن الحزب هو الذي نهض بالتشكيل بعد تغيير ابن كيران!
والظاهر أن حزب «النهضة» يواجه مشكلة مماثلة في تونس، ولكن مشكلته تبدو أعقد؛ لأن التحفظات ليست على قيام واحد من قيادييه بتشكيل الحكومة، ولكن التحفظات عليه هو نفسه كحزب. فأحزاب كثيرة فازت معه بأنصبة متفاوتة في البرلمان، ولكنها ترفضه على رأس الحكومة، ولا تتصور قيادياً من بين صفوفه رئيساً للوزراء، وتجاهر بذلك وتعلنه على الملأ، ولا تقبل المساومة فيه!
كان حزب «العدالة والتنمية» المغربي يواجه نصف المشكلة، فعبرها بشق الأنفس، فكيف ستواجه حركة «النهضة» المشكلة كلها، لا نصفها؟! هذا هو السؤال الذي تملك هي الإجابة عنه، وتستطيع أن تجعلها أصعب على نفسها وعلى غيرها، أو تجعلها أيسر على تونس جميعها، أما الخيار فيبقى لها!
عن جريدة الشرق الأوسط اللندنية