بعد انتظار أكثر من شهرين خرجت حكومة سعد الدين العثماني في نسختها الثانية إلى الوجود تاركة وراءها عددا من الأسئلة السياسية العميقة، بل ومثيرة لجدل واسع حول تركيبتها، ومدى حضور الكفاءات فيها، وعن خلفيات هذا التعديل السياسي، وما إذا كان قد صيغ بمنطق البحث عن الفعالية والنجاعة أم بمنطق ترتيب خارطة انتخابات 2021 التشريعية.
بل إن السؤال امتد حتى إلى الداخل الحزبي، وبشكل خاص، حزب العدالة والتنمية الذي يقود الحكومة، إذ ثارت أسئلة كثيرة حول شكل تعاطي رئيس الحكومة مع كفاءات حزبه، والمعايير التي اعتمدها في الإبقاء على وزراء أو إخراج آخرين، وهل كان يؤطر سلوكه بالبحث عن الكفاءات والاستجابة لمتطلبات النجاعة والفاعلية والإنجاز التي تفرضها المرحلة، أم أن الأمر كان له حسابات دقيقة تتعلق باستحقاقات الأمانة العامة للحزب، التي يرتقب إجراؤها قبيل 2021، وما يفرض ذلك من التغلب التنظيمي، وترويض مختلف مكونات الحزب وهيئاته وإخضاعها لسلطة الأمين العام الحالي، وإضعاف نفوذ الأمين العام السابق عبد الإله بنكيران؟
حكومة كفاءات أم توسع حزب التكنوقراط؟
الدعوة إلى التعديل الحكومي، جاءت في خطاب العرش في نهاية شهر تموز (يوليو) الماضي، إذ وجه الملك تعليماته لرئيس الحكومة بضرورة إجراء تعديل حكومي قبل الدخول السياسي، أي قبل موعد افتتاح البرلمان الذي يصادف الجمعة الثانية من تشرين الأول (أكتوبر) الجاري (أمس)، وذاك بأن يقترح عليه شخصيات ذات كفاءة عالية لإغناء وتجديد مناصب المسؤولية الحكومية والإدارية. وقد علل الملك الحاجة للتعديل الحكومي، بتوفير أسباب النجاح للمرحلة الجديدة، بعقليات جديدة، قادرة على الارتقاء بمستوى العمل، وعلى تحقيق التحول الجوهري الذي يتطلع إليه المغرب الذي يتجه لبلورة نموذج تنموي جديد.
بيد أن الموضوع الذي كان أساسه البحث عن كفاءات جديدة لمواكبة النموذج التنموي الجديد الذي سيتم بلورته ضمن اللجنة الخاصة التي عينها الملك، سرعان ما انضافت إليها قضية أخرى، تتعلق بتقليص عدد مناصب الحكومة، وهو المطلب الذي لم يعلن الملك عنه في خطابه الرسمي المعلن، إذ اتجه رئيس الحكومة في البدء إلى إقناع حلفائه بضرورة التقليص من عدد مناصبهم، وذلك للوصول إلى سقف أقل من 25 وزيرا بدل 39 وزيرا.
الواقع أن تقليص المناصب، حتى وإن لم يرد في خطاب الدولة، إلا أن رئيس الحكومة سبق في تصريح رسمي، أن أشار إليه بشكل ضمني دون أن يكون هناك أي سياق لذلك، إذ سبق له أن أشار إلى إمكانية الاستغناء عن كتاب الدولة، بعد الخلافات الكثيرة التي نشأت بينهم وبين الوزراء حول الصلاحيات والتفويضات، ووجع الرأس الذي كان يشكله ذلك بالنسبة لرئيس الحكومة الذي يتلقى شكاوى متكررة من كتاب الدولة بهذا الخصوص. غير أن البعض فهم من هذا التصريح التلميحي، إلى أن رئيس الحكومة كان يباشر خطوات تدريجية لإقناع حزبه بضرورة تقليص مواقعه في الحكومة بحكم أنه هو الحزب الذي يحوز أغلب كتاب الدولة (4 كتاب دولة).
ومع أن فكرة التقليص كانت تثير مخاوف من أن يكون الدور قد جاء على حزب العدالة والتنمية بعدما طال الاستهداف حليفه الاستراتيجي (حزب التقدم والاشتراكية) أكثر من مرة، إلا أن الرأي العام تقبل فكرة التقليص، بل كان دائما ينتقد على أي تعديل حكومي، أنه يخضع لمنطق المحاصصة، وتعظيم المنافع، وينتهي إلى توسيع مقاعد الحكومة بشكل غير مقبول.
لكن، ما أن تشكلت حكومة سعد الدين العثماني في نسختها الثانية، حتى ثار الجدل من جديد حول جدية حضور الكفاءات ونسبتها في هذه الحكومة. فبينما اعتبر رئيس الحكومة الدكتور سعد الدين العثماني، في تصريح لوسائل الإعلام عقب استقبال الملك لأعضاء الحكومة، أن الحكومة في صيغتها الجديدة راعت المعايير التي شدد عليها الملك في خطاب عيد العرش، والمتمثلة في إدماج عدد من الكفاءات الجديدة مع مراعاة معيار التشبيب والتأنيث، اعتبر الصحفي والكاتب نور الدين لشهب في تدوينة على حسابه على الفاسبوك، أن الحكومة المعدلة ليست حكومة كفاءات، وإنما هي حكومة أشخاص وجهات لها تطلعات، وأن الأهم بالنسبة إليه ليس هو تشكيل الحكومة، وإنما الحكم الذي صدر من المحكمة لصالح الأمين العام لحزب الأصالة والمعاصرة حكيم بنشماس ضد خصومه، والذي يعني حسب لشهب، أن حزب الأصالة والمعاصرة سيكون له شأن في الانتخابات المقبلة بشرط الإبقاء على وحدة الحزب بدل قتله، ودعا بهذا الخصوص إلى استحضار ما يجري في تونس لفهم بعض السياسة في المغرب، وعلى وجه التحديد إلى حزب القروي، ضد النهضة، وكيف تحول الأمر من النداء إلى القلب، ومع ذلك بقي القلب الأيديولوجي الذي ينبض.
تركيبة الحكومة، تكشف أن الأحزاب أصابها نقص المقاعد أكثر مما أدخلت معها كفاءات، فحزب العدالة والتنمية فقد ست مناصب، ودخل شاب واحد للحكومة لوزارة التشغيل، وسط تساؤلات حول عدم التلاؤم بين تخصصه في الحقوق كمحامي، وبين الوزارة التي أسندت إليه (وزارة التشغيل)، بينما ثار جدل آخر حول التضحية بكفاءات كبيرة للحزب. فالمناضلة الصحراوية في حزب العدالة والتنمية خديجة أبلاضي كتبت تدوينة تتحسر فيها عن خروج مصطفى الخلفي من الحكومة، وتقول بأن الوحيد الذي سيذرف دموعا على إعفاء الوزير مصطفى الخلفي هو المجتمع المدني بالصحراء، لأنه كان الوزير الوحيد الذي يزور المنطقة أكثر من مرتين في الشهر، ويقدر مبادرات الفاعلين المدنيين بالصحراء ويشرك جلهم في الأنشطة الموجهة للمجتمع المدني مع احترام انتماءاتهم السياسية والفكرية.
كما وقعت تساؤلات عدة حول دواعي الاستغناء عن الوزيرة عن نفس الحزب في قطاع التضامن والأسرة السيدة بسيمة حقاوي وتعويضها بالسيدة جميلة مصلي، مع أن تخصص السيدة حقاوي يناسب الوزارة كما أن خبرتها التي راكمتها في الوزارة لأزيد من ثمان سنوات ستؤهلها للاستمرار في أدائها أكثر من زميلتها القادمة من قطاع الصناعة التقليدية.
أما حزب الاتحاد الاشتراكي، فموجة السخرية في "الفايسبوك" لم تتوقف على إسناد وزارة العدل للسيد بن عبد القادر الذي لا يربطه بهذه الوزارة أي رابط من تخصص أو تجربة، بعد أن كان يشغل مهمة وزير منتدب مكلفا بإصلاح الإدارة.
حكومة العثماني السياسية أم حكومة حزب التكنوقراط
الجديد الذي تضمنته هذه الحكومة، هو توسع الشخصيات التكنوقراطية غير المنتمية إلى الأحزاب، بل الأكثر جدة، أن النسخة الثانية من حكومة العثماني، لم تلتزم بضابط تلوين التكنوقراط بلون حزبي كما كان الأمر في حكومة بنكيران وحكومة العثماني الأولى، بل ترسم وضع التكنوقراط كقوة داخل الحكومة خارج الشخصيات الممسكة لوزارات السيادة كما تسمى في الاصطلاح المغربي (الداخلية والخارجية والدفاع والأوقاف والشؤون الإسلامية).
ففي تعليقه على تركيبة الحكومة الجديدة، سجل عبد الرحيم العلام، أستاذ القانون والعلوم السياسية في جامعة القاضي عياض بمراكش، تضخم حضور التكنوقراط في حكومة العثماني المعدلة على حساب الحزبي، وأن هذا الحضور تعزز باسمين يحملان ملف الصحة والتعليم العالي.
وقد ذهب البعض حد وصف حكومة العثماني المعدلة بكونها حكومة تكنوقراط، وأنها ضحت بهويتها السياسية، ولم يعد يجمعها الكثير بصناديق الاقتراع التي أفرزتها، وأن أكبر حزب فيها هو حزب التكنوقراط وليس الحزب الذي تصدر انتخابات السابع من تشرين أول (أكتوبر) 2016، فيما ذهب عبد العزيز قراقي، أستاذ العلوم السياسية بجامعة محمد الخامس بالرباط، إلى موقف وسط، فهذه الحكومة في رأيه، لا يمكن أن ننعتها بالحكومة السياسية بالمطلق، كما أنه لا يمكن أن ننفي عنها ذلك بالمطلق، فهي في توصيفه حكومة فعالية، تبحث عن النجاعة، وقد احترمت في الحد الأدنى التراتبية الحزبية من خلال توزيع المناصب على الأحزاب بحسب نتائج الانتخابات مع الانفتاح على كفاءات من خارج الأحزاب، معللا ذلك بكون الأحزاب السياسية لا تتوفر على كل الكفاءات، وأن الكفاءات الموجودة في المغرب غير ممثلة كلها في الأحزاب مما وجب الانفتاح عليها.
الصحفي والكاتب لحسن أوسيموح، في قراءته لتركيبة الحكومة سجل وجود مفارقة دالة، ففي الوقت الذي يبرز فيه حضور التكنوقراط بشكل وازن (9 وزارات) مما يعطي الانطباع بأن الحكومة تكنوقراطية، تم في الجهة المقابلة، استوزار شباب تدرجوا في العمل الحزبي، وارتقوا في مؤسساته وهيئاته، مما يعتبر تثمينا للعمل الحزبي، وهو ما يمكن أن يضفي الطابع السياسي على الحكومة على حد تعبيره.
أما المحلل السياسي، والباحث في العلوم السياسية حفيظ الزهري، فقد وجه اللوم إلى الأحزاب السياسية، معللا اللجوء إلى التكنوقراط بالضرورة، خاصة في القطاعات التي فشلت الأحزاب السياسية في تدبيرها، معتبرا أن ندرة الكفاءات لدى الأحزاب ترجع على عدم قدرتها على استيعابهم داخل هياكلها وذلك بسبب الزبونية والبيرقراطية الحزبية والقرابة العائلية.
والحقيقة أن هذا التضارب في وجهات النظر حول طبيعة هذه الحكومة، وما إذا كان يغلب عليها الطابع التكنوقراطي أم السياسي، يعكس في الجوهر مشكلتين اثنتين، أولاها طبيعة النظر إلى السياسة في المغرب، وما إذا كانت الانتخابات أداة لصناعة الخارطة الانتخابية أم مجرد تأثيت لها، وثانيها، هو طبيعة النظرة إلى الأحزاب، وهل عدم الثقة فيها مدعاة لنقد طبيعة النسق السياسي؟ أم مدعاة لتمكين القوى المهيمنة على النسق من التدخل فيه؟
حكومة رهانات تدبيرية أم رهانات انتخابية؟
غير أن الملفت في الجدل الذي صاحب تشكيل الحكومة هو ما ثار حول علاقة التعديل الحكومي بترتيبات انتخابات 2021، فحسب أحمد بوز، أستاذ العلوم السياسية في جامعة محمد الخامس بالرباط، فإنه يسجل تراجع نفوذ حزب العدالة والتنمية، ليس من الناحية العددية، ولكنه من الناحية النوعية، إذ اعتبر أن الحكومة المعدلة عرفت تقليصا نوعيا من زاوية أهمية القطاعات والوزارات التي بات يشغلها وزراؤه ضمن الحكومة الجديدة، مما يعني في الجوهر تقليم أظافر الحزب، والتمكين في المقابل، لحزب الأحرار الذي احتفظ بالوزارات الوازنة الماسكة بمصادر الثورة في المغرب (الفلاحة والصيد البحري والتجارة والصناهة والسياحة).
والملاحظ أن الجدل حول علاقة التعديل الحكومي باستحقاقات 2021 التشريعية انتقل إلى الداخل الحزبي، إذ اعتبر عدد من نشطاء العدالة والتنمية، أن هذا التعديل يحمل خلفية إضعاف الحزب والتمكين لحزب الأحرار وحزب التكنوقراط الجديد، بينما اعتبر آخرون أن طريقة تدبير الدكتور سعد الدين العثماني للتفاوض من أجل تشكيل الحكومة، لاسيما ما يتعلق بحصة حزب العدالة والتنمية، تحكمت فيها اعتبارات تنظيمية صرفة، تتعلق بتجديد ولايته كأمين عام، إذ أبقى ضمن وزراء حزبه على الماسكين بالهيئات الكبرى التنظيمية للحزب، بينما استغنى عن آخرين سواء ممن يقترب من الأمين العام السابق عبد الإله بنكيران مثل مصطفى الخلفي، أو ممن ليس له وزن تنظيمي داخل الحزب مثل خالد الصمدي، أو ممن تراجع نفوذه التنظيمي كما هو الشأن بالنسبة لبسيمة حقاوي في علاقتها بالقطاع النسائي داخل الحزب لجهة تمكين جميلة مصلي رئيسة منظمة نساء العدالة والتنمية من الوزارة التي كانت تشغلها بسيمة حقاوي.
تكتيكات في التعديل الحكومي، ظهر عليها هاجس التغلب التنظيمي، ومحاولة السباق نحو الأمانة العامة لحزب العدالة والتنمية ومنع سيناريو عودة بنكيران إلى قيادة الحزب من جديد.
وهو الأمر الذي دفع القيادات الشابة للحزب، إلى دق ناقوس خطر، فحسب حسن حمورو، فإن التعديل الحكومي وضع حزب العدالة والتنمية في وضعية صعبة، وذلك بسبب استوزار رؤساء مؤسساته الحزبية، إذ دخل الوزارة كل من الكاتب الوطني للشبيبة ورئيسة منظمة النساء، ورئيس مؤسسة المنتخبين، معتبرا أن هذه الوضعية تضع الحزب أمام تحد كبير يتعلق بالعلاقة بين الحزب وبين الحكومة، وهل سنكون أمام حزب دخل إلى حكومة أم أمام حكومة دخلت للحزب! على حد تساؤله حمورو.
الأكثر إثارة في الموضوع، هو ما اثاره استوزار الكاتب الوطني لشبيبة الحزب المحامي الشاب محمد أمكراز، المقرب من الأمين العام السابق عبد الإله بنكيران، والأشد انتقادا لشخصية عزيز أخنوش الأمين العام لحزب التجمع الوطني للأحرار، ففي الوقت الذي ذهب فيه البعض مثل القيادي عبد العالي حامي الدين إلى ضرورة تثمين هذه الخطوة، معتبرا أنها تعكس اعترافا من أعلى سلطة في الدولة بالدور الذي تقوم به الشبيبة في التأطير السياسي، اعتبر آخرون في تدوينات فايسبوكية أن الأمر يتعلق بمحاولة تفكيك الشبيبة وترويضها، وأن الحاجة أضحت ماسة لانتخاب كاتب وطني جديد لشبيبة العدالة والتنمية بديلا عن وزير التشغيل الجديد السيد محمد أمكراز.
الحكومة التونسية القادمة.. امتحان جديد للديمقراطية
ندوة في لندن عن الرئاسيات التونسية والانتقال الديمقراطي