ما إن تتحرك جموع الشباب العربي، فتيانه وفتياته، وتنزل في شوارع مدن هذا القطر العربي أو ذاك، رافعة مطالب معيشية وسياسية وحقوقية واقعية وشرعية، حتى تنبري جهات كثيرة بإثارة الشكوك وتوجيه اللوم وتأليف الاتهامات المتخيلة.
فجأة تفتح أنظمة الحكم الفاسدة عيونها، بعد أن تعايشت عبر سنين مديدة مع تواجد الغنى الفاحش مع الفقر المدقع المذل فى مجتمعاتها، وبعد أن تجاهلت قنبلة ارتفاع نسب البطالة بين الشباب سنة بعد سنة دون أمل فى حل، وبعد أن تنازلت عن مسئولياتها فى توفير خدمات الرعاية الاجتماعية فى حقول التعليم والصحة والسكن والعمل، وبعد أن أنفقت الجزء الأكبر من الميزانيات على أجهزة الأمن والاستخبارات والعساكر والأسلحة والإعلام المنافق وعدد لا يحصى من شركات واجتماعات وحفلات العلاقات العامة الانتهازية.. بعد أن تعايشت مع كل ذلك وتجاهلت آلام وأحزان ويأس أولئك الشباب تفتح متأخرة عيونها المغمضة الناعسة لتنطق بوعود تكوين اللجان وتوجيه البرلمانات الخائبة والنظر فى تحقيق مطالب الشباب، ولكن مع صمت مريب عن معاقبة الفاسدين واسترجاع الثروات المنهوبة وبناء نظام سياسى واقتصادى عادل على أسس تقدمية وديمقراطية.
ولا يستطيع الإنسان أن يفهم كيف أن حكومة وبرلمانا موبوءان بجراثيم الفساد واللامبالاة يستطيعان أن يستجيبا لمطالب حقوقية جذرية كالتى يرفعها الشباب. هنا الشك الكبير فى الوعود.
أما الجهات الاستخباراتية المحلية والخارجية، فإنها تقوم بمهمة تجييش قواها وقوى زبائنها للقيام بحملات تشويه واتهامات عن طريق شبكات التواصل الاجتماعى. وهكذا يجد الشباب المحبطون أنفسهم أمام اتهامات بالعمالة لهذه الجهة أو تلك، وبالطائفية لهذه المرجعية أو تلك، وبالتواطؤ مع منظمات حقوق أو مراكز دراسات دولية. ويا ويل الحراك الشبابى فى حالة ارتكاب بعضهم خطأ أو هفوة. عند ذاك يوصم الحراك برمته كخطر شيطانى على السلم الأهلى والاستقرار المجتمعى والاقتصاد والسياحة، لإثارة الخوف فى صفوف مناصريه من عامة المواطنين.
لكن انتهازية التصدى لحراك شبابى عفوى سلمى، رافع لمطالب شرعية، تصل إلى قمتها عند بعض المستفيدين الفاسدين من فقهاء السلاطين والتخلف. بقدرة قادر ينقلب خطابهم الدينى اليومى إلى خطاب سياسى طائفى بامتياز. جزء من انتهازيتهم يبارك بتملق حراك الشباب وحقهم فى العيش الكريم، ولكن جزءا آخر يرمى إلى إدخال الانقسامات والصراعات فى صفوفهم. هذا الجزء الأخير يذكر جزءا من الشباب بعدم المساس بالمحاصصة الطائفية فى نظام الحكم. ولذا فعليهم ألا يسعوا لإسقاط أو استقالة رأس الحكم الفاسد، إذ إنه ينتمى إلى هذا المذهب أو ذاك، ويعلنون بصوت عال مخدر بأن خروج الرأس الفاسد سيعنى هزيمة لهذا المذهب أو ذاك.
وهكذا يبقى مثل هؤلاء الفقهاء متأرجحين بين فقه متعصب متخلف وبين فكر سياسى طائفى مساند للاستبداد والفساد.
لا حاجة للحديث عن مواقف التفرج واللامبالاة التى تمارسها الكثير من الأحزاب الضعيفة النائمة، إذ ترى نفسها فى الهوامش وخارج وهج حراكات الشباب. ولا حاجة للحديث عن ثرثرة كتاب ومتحدثى وسائل الإعلام المرئية والسمعية، إذ ينشغلون بطرح الأسئلة الساذجة وبادعاء الحيادية الطفولية، بينما تحترق الأرض وتسيل الدماء. ثم إن الحديث عنهما أصبح حديثا معادا ومملا وخاليا من أى فائدة وضربا فى الجسد الميت.
من هنا فإن التعويل على وصول الحراكات الثورية الشبابية، التى تظل تفاجئ الجميع وتبهر العالم وتؤكد أن تاريخ الاذلال الممتد عبر القرون الماضية قد قارب الوصول إلى نهايته.. أن التعويل سيعتمد على جيل شبابى عربى يتمتع بصفات الجرأة، دون خوف، والمخاطرة دون تهور، والقدرة على الإنجاز، حتى ولو بتعثر مؤقت، والاعتماد على تجييش ذاته ومواطنيه بقدراته الذاتية، وبإبداعاته فى استعمال سلاح تكنولوجيا التواصل الاجتماعى ومنجزات عوالم المعرفة الحديثة.
ولذا فليس بمستغرب أن تبقى شعارات مختلف تمظهرات حراكاته الجماهيرية الشبابية فى طول وعرض الوطن العربى ثابتة لا تخرج عن نطاق الحرية والديمقراطية والعدالة الاجتماعية وعيش الكرامة الإنسانية.
هذا جيل شبابى عربى يراقب ويتعلم مما يجرى فى هونج كونج وباريس ولندن وواشنطن، ومما تطرحه حراكات شباب العالم من شعارات إنسانية كبرى، ويستمعون يوميا إلى ما يطرحه أصحاب الضمائر والقيم فى مجتمعاتهم وفى العالم عبر ألف وسيلة ووسيلة. هم يعيشون فى وهج التمرد الإنسانى، حتى ولو كان لا يزال محدودا، على تاريخ وحاضر البؤس البشرى أمام التحديات القيمية والأخلاقية التى كانت ولا تزال تحاول جر الإنسانية إلى سماوات السمو والوهج الربانى.
لا خوف على شباب العرب، فالمستقبل ينتظرهم ليشملهم بدفئه وروعة تألقاته.
(الشروق المصرية)