ترجع بعض الرؤى التفسيرية زيادة حالات الإلحاد واللادينية في المجتمعات الإسلامية إلى "التشدد الديني" بوصفه أحد العوامل المهمة في زيادة تلك الحالات، وتفاقهما يوما بعد يوم.
ووفقا لباحثين فإن طبيعة التدين الموصوف بالتشدد، يقوم في بنيته المركزية على السلطوية والإكراه، حيث تفرض فيه مجمل الأحكام والمظاهر الدينية بالقوة والإكراه، فينشأ الأبناء والبنات في بيئات تكرههم على سلوكيات يرونها أعباء تثقل كواهلهم، وتقيد حرياتهم، وتحد من اختياراتهم.
وبحسب الأكاديمي والتربوي الأردني، الدكتور عوني القضاة فإن تلك الرؤية التفسيرية "من أقرب التفاسير وأشدها التصاقا بالواقع، لأن التشدد إكراه، وهو عكس الفطرة، والتشدد إن كان نحو اليمين يصبح إفراطا، وإن كان نحو اليسار يصبح تفريطا".
وأضاف: "وكلا الإفراط والتفريط تشدد، يفضي إلى الانفلات الفطري السوي، ونتيجتهما واحدة، تودي بصاحبها خارج نطاق الاعتدال والوسطية والتفكير المتسق، أو المرجعية الهادفة نحو صلاح الناس ومصالحهم".
وتابع القضاة حديثه لـ"عربي21" بالقول: "وهو ما قد يدفع الأبناء والبنات بالفعل في كبرهم إلى الإلحاد الجزئي أو الكلي، دين بلا عبادات، وشك موصول، وتردد في الاستماع إلى كل ما يصدر عن الوحي (قرآنا وسنة)، وبهذا ينسلخ المسلم عن دينه، ويغدو متشككا في هويته".
من جهته وصف الباحث المصري المتخصص في مقارنة الأديان والمذاهب الفكرية المعاصرة، الدكتور سامي عامري الرؤية التفسيرية التي ترجع زيادة حالات الإلحاد واللادينية إلى التشدد الديني كأحد الأسباب الرئيسة بأنها "رؤية مبالغ فيها، إن كان القصد منها أن التشدد الديني يفرز بذاته حالات كثيرة تفرُّ من الدين إلى اللادينية والإلحاد".
وأردف "لكن التوظيف الإعلامي المكثف لمفهوم "التشدد الديني" – سواء صح الوصف أو لم يصح – من خلال استغلال أحداث التفجيرات في البث الإخباري، أو أحاديث التوك شو، أو الأفلام والمسلسلات قد أنتج صورة نمطية للتدين باعتباره قرين التفجير في الأسواق والتجمعات العامة، وما ينتج عنه من قتل الأطفال والنساء والمارة بصورة عمياء".
ورأى عامري في حديثه لـ"عربي21" أن "اهتمام الجماعات الإسلامية بالتلقين المعرفي مع ضعف جانب التربية والتزكية يوسع دوائر الانفضاض عن الحالة الدينية عند تغير المزاج المجتمعي، وتضخم مساحات التحلل الفكري والأخلاقي". على حد قوله.
وجوابا عن سؤال حول مدى تأثير الأنساق الدينية المتشددة على توجه الأبناء في كبرهم نحو الإلحاد والدينية، قال عامري "إن فرض فهم للقضايا الفقهية يؤسس للأخذ بالأشد منها دائما، وإنكار الخلاف في القضايا الخلافية بين المذاهب المعتبرة يورث حالة صدمة عندما يكتشف الأبناء عند كبرهم أن هذه المسائل مما يسع فيها الخلاف".
اقرأ أيضا : هل بات الإلحاد ظاهرة مقلقة في العالم العربي؟
وتابع "وللأسف يتم استثمار هذه الصدمة من طرف ناشطين في نشر العالمانية والليبرالية لإسقاط الثقة في الشيوخ، وحملة العلم الشرعي، وبسقوط رمزية حملة الشرعي، وتجميل أصحاب الفكر الليبرالي، يسهل التهاوي السلس إلى مهاوي اللادينية والإلحاد".
وواصل شرح فكرته بالقول "وهذا أمر قد يمارسه بعض رموز الدعوة القريبين من الخط الليبرالي مثل الدكتور عدنان إبراهيم الذي ألحد عدد كبير من الشباب بعد سماع خطبه التي يتكثف فيها وصف حملة العلم الشرعي بأنهم ضيقوا على الناس حياتهم، ومنعوهم لذائذ الدنيا، بعبارات تعميمية وشديدة، قد تصل مبلغ البذاءة، وهو أمر غالب على كل خطبه طوال السنوات الأخيرة".
في السياق ذاته رأى الباحث الشرعي الأردني، عبد الرحمن شاهين أن "الرؤية التفسيرية السابقة صحيحة إلى حد ما، وقد يبالغ فيها في بعض الأحيان" مضيفا "نعم قد يدفع النسق الديني المتشدد في المجتمعات المحافظة الأبناء في كبرهم نحو الإلحاد واللادينية، إذا ما توافرت أجواء الانفتاح المعلوماتي والإعلامي".
ولفت شاهين إلى أن "واقع التجربة في العمل الميداني، ومواجهة حالات الإلحاد واللادينية يظهر أن التشدد الديني مسؤول إلى حد كبير عن ظهور تلك الحالات في بعض الأسر".
وردا على سؤال "عربي21" كيف يؤثر التشدد الديني على زيادة حالات الإلحاد واللادينية؟ أوضح شاهين أن العيش في أكناف التشدد الديني يُولد شعورا بوجود سلطة مطلقة جامدة مستبدة، تحاصر الحريات، وتغلق كل المنافذ على الغرائز، مما يؤجج شعور النقمة عليها".
وشدد شاهين على ضرورة التمييز بين التدين الاختياري الواعي، وبين التشدد الديني الإكراهي، فالأول يلتزم بأوامر الشرع طواعية، مع علمه أنها تصوغ حياته بشكل أفضل ويرى نتائج ذلك، أما المتشدد أو من مورس عليه التشدد فيراها مستبدة، وغير مقنعة، ويلتمس أي فرصة للانفلات، بخلاف المتدين الذي يحرص على تدينه برقابة ذاتية واعية.
اقرأ أيضا : كيف يواجه علماء الحديث حملات التشكيك في السنة النبوية؟
بدوره لفت الباحث المغربي في الفلسفة والأخلاق، فؤاد هراجة في حديثه لـ"عربي21" إلى أن "الآباء والعلماء والمعلمين والمفركين المسلمين، يجدون أنفسهم في مواجهة ما يقال عن زيادة حالات الإلحاد واللادينية أمام تحدٍ كبير خاصة مع انتشار وسائل التواصل الاجتماعي، إذ يتوجب التفكير في أساليب وقائية استباقية".
وذكر في ختام حديثه أن من أهم تلك الأساليب "التركيز على التربية القرآنية الشمولية والمتوازنة، والتربية العلومية والمستقبلية، وترسيخ أخلاقيات الرحمة والمحبة والأخوة، والاعتناء الشديد بالتربية الإيمانية القائمة على البناء والعمل، والإعلاء من مكانة وأهمية السنن والنواميس الكونية التي لا تحابي أحدا، فمن أخذ بها وصل بصرف النظر عن دينه" وفق وصفه.