أسئلة كثيرة طرحت علي خارج الجزائر ومن قبل الصحافة الدولية، حول الحراك الذي يعيشه البلد منذ 22 شباط/فبراير 2019. من بين هذه الأسئلة الملحة من يكون وراء هذا الحراك؟ ولماذا في هذا الوقت بالذات؟ وما هي سوسيولوجيته وما دور الشباب داخله؟ وما هي القوى السياسية الحاضرة فيه وما دور الحزب السياسي والجمعية والنخب؟ وما توقعات نجاحه وفشله؟ وكيف سيتطور تعامل السلطة معه؟ وغيرها من الأسئلة التي لا أملك لها إجابات كاملة بالضرورة، بعد خمسة أشهر من انطلاق هذه الثورة السلمية، التي لم تعرف لها الجزائر مثيلا منذ استقلالها.
إجابتي عن هذه الأسئلة سأقسمها إلى مستويين، وسأبدأ من الأسفل قبل التطرق إلى الجوانب الفكرية والسياسية المرتبطة بهذا الحراك الشعبي، الذي أخرج الشعب إلى الشارع بهذه القوة. لنكون بذلك أمام أول خاصية تميز هذا الحراك، طابعه الشعبي الواسع الذي مسّ مختلف مناطق البلاد وعبّر عن نفسه في المدينة الكبيرة والمتوسطة، التي يسكنها اغلبية الجزائريين – حوالي 68% من الجزائريين يعيشون في المدن- فكانت عواصم الولايات هي مكان التعبير الرئيسي عن هذا الحراك؛ بكل ما يميز ديموغرافية الجزائر من حيث الكثافة السكانية والتقسيم الجنسي والعمري.
ليس غريبا إذن أن نلاحظ ذلك التميز الذي يمثله الشباب داخل الحراك، في مجتمع مازال شابا رغم تحولاته الديموغرافية، التي تخبرنا أنه مجتمع يتجه نحو زيادة نسبة الكبار في السن داخله بشكل متسارع كأي مجتمع يعيش عملية انتقال ديموغرافي وصفها الديموغرافيون بالتميز. ليبقى حضور البنات والمرأة هي المفاجأة الكبرى التي أبرزها هذا الحراك.
مثل حضور الشباب، لم يكن من الغريب أن يغلب الطابع الشعبي على الحراك الجزائري، في مجتمع تميز على الدوام بقوة حضور الفئات الشعبية كفاعل سياسي جماعي منحت عفويتها وعنفوانها للجزائر، التي اختارت التحرك من الملعب وأزقة الحي الشعبيين، واستطاعت أن تفرض حضورها ثقافيا وفنيا قبل الحضور السياسي، فكانت البداية من أهازيجها وأغانيها التي تبناها الحراك الشعبي بكل عفوية.
الجديد هذه المرة هو حضور قوي للفئات الوسطى الحضرية، التي عبرت عنها فئات كثيرة مالكة، صغيرة ومتوسطة وأجيرة عليا، ذات تأهيل عال عن طريق مشاركة قوية داخل يوميات الحراك، كحضور شعبي وتنظيم، بدأت آثاره في البروز على السطح بشكل إيجابي، بداية من المسيرات الثانية والثالثة، وهي تنتقل من التعبير الشفهي إلى المكتوب وبكل اللغات والأشكال التعبيرية والفنية. فئات كانت بعيدة عن الفعل السياسي الرسمي وأدواته المعروفة كالحزب والانتخابات التي قاطعها الشباب منذ مدة طويلة على غرار الفئات الوسطى من سكان المدن.
رغم أن الحراك عبر عن نفسه بشكل غير متجانس ديموغرافيا وسوسيولوجيا، كما كان مع طلبة الجامعات والنقابات المهنية والجمعيات المهنية، على غرار المحامين، تماما كما هو حاصل في السودان، فإن البعد السياسي هو الذي طغا بحيث لم تبرز إلى السطح أي مطالب فئوية اجتماعية ومهنية حتى الآن، ليكون التركيز على ما سميته أكثر من مرة باللحظة السياسية التي أرادها الجزائريون أن تكون مرتبطة بحراكهم الشعبي. خاصية التركيز على اللحظة السياسية التي تميز الحراك الجزائري، لا يمكن فهمها الا بالعودة إلى التاريخ الاجتماعي والسياسي القريب، الذي سادت فيه الحركات الاجتماعية المطلبية لمدة عقود، دون أن تنجح في تحقيق ما كانت تصبو إليه، فقد اكتشف الجزائريون بذكائهم السياسي الجماعي الذي كان حاضرا بقوة هذه المرة، أن الحل لن يكون إلا سياسيا أمام نظام سياسي ريعي يتماهى فيه الاقتصادي والسياسي بشكل كلي، لن يكون هناك حل لإشكالياته الاقتصادية المرتبطة بتوزيع الثروة والفساد وغيرها من القضايا، التي تبدو لأول وهلة اقتصادية إلا بالعودة إلى العمق السياسي.
قناعة توصل إليها الجزائريون وعبروا عنها من خلال حراكهم الذي ركز بشكل واضح على المطالب السياسية لإنجاز قطيعة مع نظام سياسي فاسد يملك قدرة كبيرة على إعادة إنتاج نفسه، رافضا كل تغيير جدي بالوسائل التقليدية المتعارف عليها كالانتخابات. لندخل بهذا إلى الأسئلة السياسية التي يطرحها أكثر من ملاحظ حول ما يميز حراك الجزائريين.
الحضور الشعبي القوي بطابعه الوطني كان له تأثير مباشر على التنوع السياسي والفكري داخل الحراك الشعبي، كتعبير عن لحظة سياسية متميزة في تاريخ الجزائر لما بعد العشرية السوداء في بعدها الإقليمي، بعد تجارب الربيع العربي التي استفاد منها الشعب الجزائري في القيام بقراءة ذكية لموازين القوى، فكان أن ركز بشكل لافت على سلمية حراكه وشعبيته ووطنيته، التي شملت كل التراب الوطني هذه المرة، ولم يحصل ما كان سائدا عندما كانت حركات الاحتجاج ذات طابع جهوي أو محلي؛ منطقة القبائل او المدن الكبرى.
ضعف الأحزاب السياسية داخل الحراك سهّل عليه التعبير عن نفسه بحيوية وصدق أكثر عن هذا المجتمع الجزائري الشاب، الذي لم يعش تجربة العمل السياسي السري والأحادية بكل عيوبها السياسية والنفسية، التي مازالت النخب الحزبية لم تتخلص منها حتى الآن وبعد شهور من انطلاق الحراك، دون أن يعني بالضرورة أن الحراك «خام سياسي»، فقد ظهرت فيه تيارات سياسية وفكرية عديدة من أقصى اليسار إلى التيارات الدينية والوطنية، مرورا بتيارات شعبوية ذات توجه يميني ليس بعيدا عما هو سائد دوليا. في تركيز واضح على القراءة الإثنية والعرقية في بعض الحالات، مازالت محصورة شعبيا، لكنها حاضرة لدى جزء من «النخب « التي أفرزتها التحولات الاجتماعية والثقافية السريعة، التي كان المجتمع الجزائري مسرحا لها في العقود الأخيرة، كانتشار التعليم ووسائط التواصل الاجتماعي، بما ارتبطت به من هجرة نحو المناطق الحضرية المتوسطة والكبيرة لأبناء المناطق الريفية، الذين يطالبون بحقهم في الاهتمام بالشأن السياسي الوطني والحضور الذي يفترضه.
قوى سياسية وفكرية منظمة وغير منظمة، استطاعت لحد الساعة أن تتحاور داخل هذا الفضاء العام، الذي خلقه الحراك الشعبي بسلمية كبيرة وبدرجة قبول كبيرة جدا لم تكن منتظرة من الجزائريين، الذين كانت الأفكار المسبقة حولهم تقدمه بصورة مغايرة تماما، اعتمادا على قراءات سياسية مبتورة لمحطات تاريخهم السياسي، والذين يريدون القطيعة معه ومع نظامهم السياسي، الذي كان المتسبب الرئيسي في تصحير الحياة السياسية وإبعاد الجزائري عن الاهتمام بالشأن العام الوطني الذي عاد بقوة مع الحراك.
عن صحيفة القدس العربي اللندنية