إلى ماذا يشير هذا الجدل المتصاعد حول ظاهرة الإلحاد في العالم العربي؟
من الصعب التعامل بكثير من البراءة مع هذا الجدل، والذي يتحدث عن الظاهرة كما لو أنها تداهم كل البيوت في العالم العربي والإسلامي، أو أن لها تيارات تدافع عنها، وصارت لها مجموعات حقيقية تتبناها، وتبشّر بها بين الشباب.
ما ينبغي أن نتذكّره وقلناه مرارا هو أن هناك هجمة واضحة على ظاهرة التدين في العالم العربي، وذلك بعد شيوع الاعتقاد بأنها هي من وقف خلف الربيع العربي، بمنحها حاضنة شعبية لما يسمى "الإسلام السياسي"، وما ترتب على هذا الاعتقاد ممثلا في ضرورة محاصرة الظاهرة (التدين) لوأد أحلام الإصلاح والتغيير. وهو ما يدخل مخطط إشاعة فكرة الإلحاد ضمن ذات السياق؛ أي محاربة الدين.
العنصر الأهم في هذه المرحلة، فيتمثل في إبقاء الدين فاعلا في حياة الناس ومعبّرا عن همومهم، لأن التدين السلبي هو الأخطر، وهو ما يُبعد الناس عن الدين والتدين
دعك هنا من سخف هذا الاعتقاد المتعلق بتفسير مرحلة الربيع العربي، بدليل مفاجأة الجزائر والسودان، وحتى ما قبلها، إذ كان احتجاجا شعبيا لا صلة له بالدين، وإن تصدّرته القوى الإسلامية بوصفها القوى الأكثر تنظيما في الشارع، وحين كان المشهد في السودان مثلا، محسوبا على الإسلاميين، حدث أن تصدّر اليسار الاحتجاجات.
الخلاصة أن هناك مخططا مقصودا لإشاعة أن الإلحاد أصبح ظاهرة، فيما الحقيقة أنه ليس كذلك، إذ ما يزال موجودا في نطاق ضيق، ولا يجهر به سوى عدد محدود جدا من الناس.
سيقول البعض إن ذلك ناتج عن الخوف من المجتمع، وهذا الرد يؤكد بدوره أن "الإلحاد" لم يبلغ مستوى الظاهرة، وإلا لعبّر عن نفسه بجرأة، بل إن بقايا اليسار في الشارع لا تتورط كثيرا في الحديث عن الإلحاد، وهي تكتفي بالحديث عن مطالب الشعوب، فضلا عن أن بعض عناصرها يقولون إنهم ليسوا ضد الدين، بل ليسوا ملحدين أصلا.
وإذا جئنا نتحدث في الإطار العالمي، وحيث لا يتدخل المجتمع في معتقدات الناس، فإن الإلحاد ليس ظاهرة واسعة النطاق، اللهم إن كانت في إطار من وصف أناس لأنفسهم بأنهم "لا دينيون"، أي أنهم غير متدينين، ولكنهم لا يدخلون في جدل وجود الله أو عدم وجوده.
الإيمان حالة فردية في نهاية المطاف، لكنه حاجة إنسانية تستحيل الحياة بدونها، فضلا عن حقيقة أن كل ما في الكون يؤكده ويدعمه
المقولات التي يستند إليها منطق الإلحاد مقولات متهافتة، وردود الغربيين عليها أكثر قوة من ردود المسلمين، وإن تخصص دعاة وعلماء مسلمون في الرد على الإلحاد وعلى الإسلام ذاته، وأبدع كثيرون في هذا المضمار، و"يوتيوب" يزدحم بتلك الردود لمن شاء البحث عن الحقيقة، لا سيما من أولئك الشبان الذين يمرون بمرحلة من الشك، وتنتهي بهم غالبا إلى الإيمان، وأجزم أن كثيرين مروا بتلك المرحلة.
أتذكر في هذا السياق مجموعة من الشيوعيين في الحالة الفلسطينية مروا جميعا بهذه التجربة حين رأوا انحياز الناس إلى الدين، وقدرته الفريدة على حشدهم في منظومة رفض الاحتلال والطغيان أثناء الثورة الإيرانية، فقرروا الدخول في جدال داخلي حول القضية، وطال بهم النقاش بين أخذ ورد إلى أن طرح أحدهم السؤال التالي على زملائه: أيهما أفضل: أن تكون هناك محطة للعدل المطلق بعد هذه الحياة المدججة بالظلم، أم تنتهي الرحلة بالموت؟ فأجاب الجميع أن الأفضل أن تكون هناك محطة للعدل المطلق، فكان أن آمن أكثرهم وتوزعوا في الغالب على أديانهم ومذاهبهم الأصلية، فيما أسلم البعض الآخر.
على الدعاة والعلماء أن يكونوا أكثر حذرا في تقديم خطابهم، وتدقيق نصوصهم بحيث لا يساهموا في دعم الظاهرة، وأقله فضّ الناس من حول الدين
الإيمان حالة فردية في نهاية المطاف، لكنه حاجة إنسانية تستحيل الحياة بدونها، فضلا عن حقيقة أن كل ما في الكون يؤكده ويدعمه، وهنا نشير إلى قضية مهمة، وهي أنه حتى في ذروة صعود الشيوعية واليسار خلال الستينات والسبعينات، لم يكن حديث الإلحاد سائدا في المجتمعات العربية، وكانت القوى اليسارية تتجنبه خشية الاصطدام بالناس، فكيف يمكن القول إنه أصبح ظاهرة الآن في ظل تلاشي اليسار، وفي ظل الصحوة الدينية التي تملأ الآفاق.
على أن ذلك كله لا يعني تجاهل الظاهرة، لا سيما حين يكون مدخلها أسئلة يطرحها خطاب ديني يصطدم في بعض تجلياته مع العقل ومع وقائع التاريخ والعلم والحياة، ما يعني أن على الدعاة والعلماء أن يكونوا أكثر حذرا في تقديم خطابهم، وتدقيق نصوصهم بحيث لا يساهموا في دعم الظاهرة، وأقله فضّ الناس من حول الدين.
أما العنصر الأهم في هذه المرحلة، فيتمثل في إبقاء الدين فاعلا في حياة الناس ومعبّرا عن همومهم، لأن التدين السلبي هو الأخطر، وهو ما يُبعد الناس عن الدين والتدين، حتى لو لم يذهب الناس نحو أيديولوجيات أخرى. وهذا التدين الإيجابي هو من سيصنع التغيير في حياة الشعوب، وهو ذاته ما سيرد على مروجي الإلحاد، وكل الظواهر المعادية للدين؛ بما يملكونه من إمكانات هائلة، استخدموها في مطاردة ربيع الشعوب، وما زالوا يفعلون.