ديناصور سياسي، ورئيس دولة عجوز، حاضر الذهن والبديهة، خدم في ظل جميع رؤساء تونس منذ الاستقلال.
شخصية ليبرالية تؤمن بالعلمانية وبالدولة المدنية، ذو فكر سياسي معتدل قائم على البراغماتية والواقعية السياسية.
بدا متأثرا جدا بالرئيس الأول للجمهورية التونسية الحبيب بورقيبة إلى حد أنه كان يتبنى أفكاره ومبادئه.
أنصاره وعموم المواطنين يدللونه فيلقبونه بـ "البجبوج"، تيّمنا باسمه "الباجي".
الباجي قائد السبسي أو محمد الباجي بن حسونة قائد السبسي، المولود عام 1926 في منطقة سيدي بوسعيد إحدى ضواحي تونس العاصمة، نشأ في كنف عائلة قريبة من "البايات الحسينيين"، و"الباي" لقب كان يطلق على حكام تونس في العهد العثماني، وتخرج من كلية الحقوق في باريس عام 1950 .
وفي باريس وجد نفسه قريبا من بورقيبة الذي احتضنه سياسيا، وجعل منه أحد المسؤولين الفاعلين رغم صغر سن.
ناضل سياسيا، من خلال الحزب "الحر الدستوري الجديد" في فترة مبكرة من شبابه، وبعد استقلال تونس عمل مستشارا للرئيس بورقيبة، ثم مدير إدارة في وزارة الداخلية، وفي عام 1963 عين على رأس إدارة الأمن الوطني بعد إقالة إدريس قيقة على خلفية المحاولة الانقلابية التي كشف عنها في عام 1962.
وبعد عامين عين وزيرا للداخلية. تولى بعدها وزارة الدفاع ما بين عامي 1969 و1970 حين تقرر تعيينه سفيرا لدى باريس.
على خلفية تأييده إصلاح النظام السياسي، جمد نشاطه في الحزب "الاشتراكي الدستوري" عام 1971 لينضم بعدها للمجموعة التي ستشكل عام 1978 حركة "الديمقراطيين الاشتراكيين" بزعامة أحمد المستيري، وتولى في تلك الفترة إدارة مجلة "الديمقراطية" المعارضة.
عاد السبسي إلى الحكومة عام 1980 وزيرا معتمدا في حكومة محمد مزالي الذي سعى إلى الانفتاح السياسي، وفي عام 1981 عين وزيرا للخارجية، وكان لا يزال في منصبه عندما شنت طائرات إسرائيلية غارة جوية على مقر منظمة التحرير الفلسطينية في حمام الشط بتونس عام 1986.
اقرأ أيضا : تونس تشيع الرئيس السبسي بمشاركة رؤساء هذه الدول (مباشر)
لم يبتعد السبسي كثيرا عن المنصب بعد انقلاب عام 1987 الذي قاده زين العابدين بن علي ضد بورقيبة حيث عين سفيرا لدى ألمانيا. وبعدها بعامين ترشح السبسي للانتخابات النيابية وانتخب عضوا في مجلس النواب عام 1989 وتولى رئاسة المجلس بين عامي 1990 و1991.
تحالف السبسي بشكل براغماتي مع الحاكم الأوتوقراطي الجديد في البلاد بن علي، وهي الفترة التي يفضل السبسي وأنصاره نسيانها.
اشتغل بمهنة المحاماة عام 1994، وبقي يمارس المحاماة إلى أن أصبح رئيسا للوزراء في الحكومة الانتقالية التي تشكلت بعد سقوط نظام بن علي بثورة 14 كانون الثاني/ يناير 2011.
وجهت للباجي السبسي انتقادات كثيرة متعلقة بماضيه السياسي من بينها اتهامات بتعذيب المعارضين عند توليه وزارة الداخلية زمن بورقيبة، وأقام معارضون دعوى قضائية ضده في عام 2012 لاتهامات له بتعذيب معارضين، وهي تهمة نفاها عن نفسه.
وسيقوم بعدها بعام بتأسيس حزب "نداء تونس" وهو حزب وحد اليساريين ونخب النظام القديم والعلمانيين المتشددين وفرض نفسه سريعا على الساحة السياسية بصفته أكبر خصم علماني لـ"حركة النهضة" الإسلامية التوجه.
ويضم حزب "نداء تونس" نقابيين ويساريين ومنتمين سابقين إلى حزب "التجمع الدستوري الديمقراطي" الحاكم في عهد بن علي.
كان السبسي يدافع عن ما يسميه "مشروع الدولة الحديثة للقرن 21"، والذي يسعى حزبه لتكريسه بعيدا عن "المزايدات وتوظيف الدين الإسلامي"، على حد قوله، يقول: "نحن مسلمون وستكون دولتنا مسلمة ولا نقبل المزايدات من أي جهة".
وقال في مقابلة مع تلفزيون "الحوار" التونسي : "كوّنّا نداء تونس من أجل خلق التوازن في المشهد السياسي ونجحنا في هذا الأمر".
وفي عام 2013، نزل حزب "نداء تونس" بثقله في احتجاجات وتظاهرات طالبت بالإطاحة بحكومة "الترويكا" التي كانت تقودها "النهضة"، وذلك إثر اغتيال معارض في حادثة هي الثانية خلال أقل من عام، ومقتل عناصر من الأمن والجيش في هجمات نسبتها السلطات إلى "إرهابيين".. ما أثار احتجاجات ضخمة مناهضة للحكومة.
اقرا أيضا : هل يؤثر رحيل السبسي على المسار الديمقراطي في تونس؟
واتهم المتظاهرون "النهضة" بالفشل في اتخاذ إجراءات صارمة ضد المتطرفين المسؤولين عن ارتكاب هذه الجرائم. ومع تزايد الانقسامات، وتدهور الأوضاع باتت البلاد أمام الفوضى، ودعا المحتجون إلى تنحي "النهضة"، وهو ما حصل بالفعل بعد المشاركة في حوار وطني بوساطة "رباعي منظمات المجتمع المدني".
وصل "نداء تونس" في انتخابات عام 2014 إلى الحكم وسيطر على الرئاسات الثلاث، البرلمان والحكومة والجمهورية، ووصل السبسي أخيرا إلى "قصر قرطاج" بالعاصمة تونس.
ووجهت المعارضة ووسائل إعلام نقدا للسبسي باعتباره يوجه خطابات تحتوي على شعارات لا تحمل حلولا حقيقية، ووجهت له انتقادات لترشحه لرئاسة الجمهورية باعتباره رجلا طاعنا في السن.
وكثيرا ما أثارت تصريحاته الصحافية مخاوف من مرحلة استبدادية في الحكم، ففي حوار مع إذاعة فرنسية، قال: "الذين صوتوا للمرزوقي هم الإسلاميون والإرهابيون"، وهو ما اعتبره "المرصد الأورومتوسطي" دعوة للكراهية، خصوصا أنها تمس طائفة واسعة من التونسيين لمجرد ممارستهم حقهم في الانتخاب، والذي كفله الدستور التونسي.
أثناء وقبل حملته في الانتخابات الرئاسية أطلق السبسي مفهوم هيبة الدولة. وفي فترة رئاسته تبنى سياسة دبلوماسية تقليدية قائمة على التقرب من المحيط الأوروبي والعالم الغربي، مع تحسين العلاقات مع الدول العربية والإسلامية، والمحافظة على علاقات وثيقة مع دول المغرب العربي.
وعلى عكس حملته الانتخابية، التي حملت مشاعر عداء واضحة ومتشددة ضد الإسلاميين، فقد أكد أنه سيكون "رئيسا لجميع التونسيين" بعد أن لعب دورا هاما في مرحلة الانتقال الديمقراطي في تونس، إثر الأزمة السياسية التي عرفتها البلاد في 2013 وانتهاج سياسة التوافق التي جمعته مع راشد الغنوشي رئيس "حركة النهضة"، ومكونات سياسية أخرى.
السبسي تعهد بالإصلاح الشامل للمشاكل الاقتصادية في تونس، وتحسين الأمن وتعزيز الديمقراطية الهشة في البلاد. وبعد أربع سنوات، فشل السياسي المخضرم في تحقيق أي نجاح على جميع هذه الجبهات.
وفي حزبه دبت الخلافات العلنية بعد اتهامهم إياه بمحاولة الصعود بمكانه ابنه حافظ في الحزب الذي تولى بالفعل قيادة "نداء تونس" ودخل في صراع مع رئيس الوزراء يوسف الشاهد.
ولم تشفع له الخطوات "الجريئة" عام 2017، فقد تلاشت أمام إقرار قانون يمنح العفو عن المسؤولين وأباطرة الأعمال في عهد بن علي، الذين يخضعون للمحاكمة بسبب الفساد الإداري.
وفي الوقت الذي بدا فيه أن الديمقراطية الهشة في تونس تتآكل تدريجيا، كان التونسيون الفقراء أكثر اهتماما بالاقتصاد المتدهور. وشكل الفساد المتنامي والمحسوبية وثقافة الإفلات من العقاب تهديدا أكبر للديمقراطية التونسية الوليدة و"الطرية".
ورغم أن ولاية الرئيس السبسي تنتهي مطلع تشرين الثاني/ نوفمبر المقبل، إلا أنه أبقى قراره غامضا حتى لخظة رحيله.