ناقشنا في مقالنا السابق ما سمي بآية الرجم، التي روتها كتب السنة، وأن آية نزلت في القرآن ثم نسخت تلاوتها وبقي حكمها، كان نصها: "الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة"، مع إضافة أو حذف كلمة في روايات أخرى، وناقشنا أنها لا تصح آية من القرآن الكريم لأدلة كثيرة.. وبقيت عدة نقاط مهمة في هذا الموضوع، نناقشها في مقالنا هذا، وهي: ما المقصود بآية هنا في فهم عمر بن الخطاب وغيره؟ وهل توجد آية في التوراة تسمى آية الرجم؟ وما مدى التطابق والتوافق بينها وبين ما قيل عنه آية الرجم في الإسلام؟
ما المقصود بآية الرجم؟
لعل وصف عمر لهذه الكلمات التي كان يحفظها هو وغيره بأنها آية؛ من باب المبالغة في تشبيه الأحكام التي قالها الرسول بالآيات القرآنية، بجامع أن كلا من السنة الصحيحة والقرآن واجب الطاعة.
وهذا الأسلوب، أسلوب المبالغة والتشدد في نسبة كل حكم شرعي إلى كتاب الله، هو المعهود في عمر بن الخطاب. فقد ذكر ابن دحية في كتابه "وهج الجمر في تحريم الخمر" أن عمر قال: "لقد هممت أن أكتب في المصحف: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم جلد في الخمر ثمانين".
ولو كان كل ما قاله عمر من باب الحقيقة وأنه كان قرآنا يتلى، لرأينا كثيرا من الرواة يحفظونه، فضلا عن كتابته، فقد حفظ الصحابة الأحاديث المتواترة، واشتهر بينهم كثير من الأحاديث الآحاد، وهي أحاديث لا يُتعبد بتلاوتها كالقرآن. وكان أولى بهم أن ينقلوا إلينا هذا الذي كان يُحفظ ويُتعبد بتلاوته، بل كان جديرا أن ينقل إلينا نقلا أمينا متواترا باللفظ والمعنى.
ولعل المراد بكلمة "آية" في قول عمر، هو الحكم الشرعي، وليس الآية القرآنية المعروفة في مصطلح القراء، وقد جاءت الآيات بمعنى الأحكام الشرعية في القرآن(1)، أو كما قال القاضي عياض: يريد بما أنزل الله: أي من الوحي على نبيه صلى الله عليه وسلم، وشرعه له(2).
ما المقصود بآية الرجم عند ابن رشد؟
ويقول ابن رشد عن آية الرجم، وهل هي آية أم لا: "وقد اختُلف في قوله: "الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة"، وقيل: كان ذلك قرآنا يتلى على ظاهر قول عمر ثم نسخ خطه وبقي حكمه، فقيل: لم يكن قرآنا، وإنما كان وحيا أوحي به إلى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فكان يتلى على أنه وحي لا على أنه قرآن.
وهذا هو الذي نختاره، إذ لو كان قرآنا لم يخل أن يكون محكما أو منسوخا، ولا يصح أن يكون محكما، إذ لو كان محكما لثبت بين اللوحين ولما صح سقوطه؛ لأن الله عز وجل قد حفظ القرآن فقال: "إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ" (الحجر: 9)، ولا يصح أن يكون منسوخا لوجهين:
أحدهما: وجوب العمل به، والثاني: إرادة عمر أن يكتبه في المصحف، إذ يبعد أن يريد أن يكتب في القرآن ما ليس من القرآن.
فإذا بطل أن يكون محكما وأن يكون منسوخا، بطل أن يكون قرآنا، فإنما كان وحيا يتلى أنزله الله تعالى على نبيه عَلَيْهِ السَّلَامُ؛ بيانا لمجمل كتابه، فهمّ عمر بن الخطاب أن يكتبه في عرض المصحف على أنه وحي وبيان لمجمل كتاب الله لا على أنه قرآن، ثم لم يفعل لما خشي أن يظنه الجاهل قرآنا"(3).
آية الرجم في التوراة:
وبناء على كلام ابن رشد، من أن ما ورد عن آية الرجم، مقصود بها أنه كان من باب الوحي، وليس من باب القرآن الثابت، فلا بد أن نبحث عن ورود ما سمي بآية الرجم، من باب الوحي، في شرع من قبلنا مثلا، وهو ما ورد بصريح الكلمة: "آية الرجم" في التوراة، وسميت في السنة النبوية بهذا الاسم (آية الرجم)، فقد وردت من باب الحديث عن وجود آية رجم في التوراة، وذلك عندما زنى يهوديان، ونص الحديث:
عن ابن عمر أنه قال: إن اليهود جاءوا إلى النبى صلى الله عليه وسلم فذكروا له أن رجلا منهم وامرأة زنيا، فقال لهم رسول الله صلي الله عليه وسلم: "ما تجدون في التوراة من شأن الزنى؟ ". فقالوا: نفضحهم ويجلدون. قال عبد الله بن سلام: كذبتم، إن فيها للرجم. فأتوا بالتوراة فنشروها، فجعل أحدهم يده على آية الرجم، وجعل يقرأ ما قبلها وما بعدها، فقال له عبد الله بن سلام: ارفع يدك. فرفعها فإذا فيها آية الرجم فقالوا: صدق يا محمد، فيها آية الرجم. فأمر بهما رسول الله صلي الله عليه وسلم فرجما. قال عبد الله: فرأيت الرجل يحني على المرأة يقيها الحجارة"(4).
فالمذكور هنا عن آية رجم في التوراة، وقد حكم بها صلى الله عليه وسلم بينهم، عندما طلبوا حكمه. والسؤال هنا: هل هناك علاقة بين آية الرجم في التوراة، وآية رجم أخرى في الإسلام؟ وهل المقصود هنا بآية الرجم هي آية التوراة، بحكم أن شرع من قبلنا شرع لنا، وأن ما ورد في الكتب السماوية السابقة يقبله الإسلام، ما لم ينسخ، أو ينتهي العمل به؟ وبخاصة أن نص آية الرجم في التوراة لم يُذكر لنا في كل الروايات التي وردتنا، بل ذكر نص آية الرجم التي يدعى وجودها في القرآن فقط. كما أن الإسلام جاء ناسخا في أحكام منه بعض ما سلف من أحكام الشرائع السابقة، والرجم عقوبة ثابتة في شريعة اليهود، وقد كانوا مجاورين للمؤمنين في المدينة المنورة، ومواطنين في الدولة، ثم بعد ذلك طبقت العقوبة إلى أن تنسخ في الإسلام بالحدود المستقرة في القرآن. وهنا لا بد من نقاش عدة نقاط:
آية الرجم عند اليهود كما وردت في تراثنا:
لقد وردت عبارة آية الرجم عند اليهود في توراتهم التي أنزلت على موسى عليه السلام، فوجدنا الصيغة متطابقة مع ما ورد في كتب السنة في الإسلام، عن الصحابة الكرام، فقد أورد الطبري في تفسيره هذا الأثر:
كان في حكم حيي بن أخطب: للنّضِيريِّ ديتان، والقرظيّ دية لأنه كان من النضير. قال: وأخبر الله نبيه صلى الله عليه وسلم بما في التوراة، قال: "وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ" (المائدة: 45)، إلى آخر الآية.
قال: فلما رأت ذلك قريظة، لم يرضوا بحكم ابن أخطب، فقالوا: نتحاكم إلى محمد! فقال الله تبارك وتعالى: "فإن جاءوك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم"، فخيرّه "وكيف يحكمونك وعندهم التوراة فيها حكم الله"، الآية كلها. وكان الشريف إذا زنى بالدنيئة رجموها هي، وحمَّموا وجهَ الشريف، وحملوه على البعير، وجَعلوا وجهه من قِبَل ذنب البعير. وإذا زنى الدنيء بالشريفة رجموه، وفعلوا بها هي ذلك. فتحاكموا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فرجمها.
قال: وكان النبي صلى الله عليه وسلم قال لهم: من أعلمكم بالتوراة؟ قالوا: فلان الأعور! فأرسل إليه فأتاه، فقال: أنت أعلمهم بالتوراة؟ قال: كذاك تزعم يهودُ! فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: أنشدك بالله وبالتوراة التي أنزلها على موسى يوم طُور سَيْنَاء، ما تجد في التوراة في الزانيين؟ فقال: يا أبا القاسم، يرجمون الدنيئة، ويحملون الشريف على بعير، ويحمِّمون وجهه، ويجعلون وجهه من قبل ذنَبِ البعير، ويرجمون الدنيء إذا زنى بالشريفة، ويفعلون بها هي ذلك.
فقال له النبي صلى الله عليه وسلم:"أنشدك بالله وبالتوراة التي أنزلها على موسى يوم طُور سَيْناء، ما تجد في التوراة؟ فجعل يروغ، والنبي صلى الله عليه وسلم يَنْشُده بالله وبالتوراة التي أنزلها على موسى يوم طور سيناء، حتى قال: يا أبا القاسم، "الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة". فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فهو ذاك، اذهبوا بهما فارجموهما. قال عبد الله: فكنت فيمن رجمهما فما زال يُجْنِئُ عليها، ويقيها الحجارة بنفسه حتّى مات"(5).
وقد روى أبو هريرة رضي الله عنه آية الرجم التي قرأوها عند اليهود في حديث رجم اليهوديين، فقال: آية الرجم: وهي "المحصن والمحصنة إذا زنيا فقامت عليهما البينة رجما وإن كانت المرأة حبلى تربص بها حتى تضع ما في بطنها"(6).
فالمتأمل هنا في آية الرجم في التوراة كما يذكرها الأثر الأول في تفسير الطبري، والأثر الذي رواه أبو هريرة رضي الله عنه، تتقارب جدا إلى رواية آية الرجم التي تذكر عن الصحابة، بل تتطابق مع ما يذكر عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه عن آية الرجم.
اطلاع الصحابة على كتب اليهود:
ولسنا نستبعد ذلك، فقد وردت آية الرجم عن عمر بن الخطاب، والمعلوم أن عمر كان يطلع على كتب أهل الكتاب، وبخاصة التوراة، وكذلك بعض الصحابة، فعن جابر بن عبد الله: أن عمر بن الخطاب أتى النبي صلى الله عليه وسلم بكتاب أصابه من بعض الكتب، فقال: يا رسول الله، إني أصبت كتابا حسنا من بعض أهل الكتاب، قال: فغضب، وقال: أمتهوكون فيها يا ابن الخطاب، والذي نفسي بيده، لقد جئتكم بها بيضاء نقية، لا تسألوهم عن شيء فيخبروكم بحق فتكذبوا به، أو بباطل فتصدقوا به، والذي نفسي بيده، لو كان موسى كان حيا اليوم ما وسعه إلا أن يتبعني"(7).
وعن عطاء بن يسار قال: كانت اليهود تجيء إلى المسلمين فيحدثونهم فيستحسنون، أو قال: يستحبون، فذكروا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: لا تصدقوهم، ولا تكذبوهم، قولوا: "آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إليكم" إلى آخر الآية(8).
وقال عمر بن الخطاب لكعب الأحبار الذي كان يقربه منه: "إن كنت تعلم أنها التوراة التي أنزلها الله عز وجل على موسى بن عمران عليه السلام، فاقرأها آناء الليل والنهار"(9).
فإذا كان النص الوارد عن آية الرجم في التوراة، هو نفسه النص المنسوب لآية الرجم في الإسلام، فلا يستبعد أن يكون المقصود بأية الرجم نص التوراة، بحكم أنه نص غير محرف، ولذا حكم به النبي صلى الله عليه وسلم على اليهود في قضية الزنى، ولأن ورود نصوص في القرآن متطابقة مع الكتب المقدسة السابقة موجود، كقوله تعالى: "بل تؤثرون الحياة الدنيا. والآخرة خير وأبقى. إن هذا لفي الصحف الأولى. صحف إبراهيم وموسى" (الأعلى: 16-19)، وقوله: "أم لم ينبأ بما صحف موسى. وإبراهيم الذي وفّى. ألا تزر وازرة وزر أخرى. وأن ليس للإنسان إلا ما سعى. وأن سعيه سوف يرى" (النجم: 36-40)، وغيرها من الآيات، فهي نصوص من الكتب السابقة يقرها القرآن كوحي صحيح.
والإسلام لم يجئ ليلغي ما سبق من الكتب السماوية، بل جاء مهيمنا، ومكملا ومتمما لها ولشريعتها، ومخففا لما ورد فيه من شدة، وهو ما نقول به في قضيتنا (الرجم للزناة)، وهو ما يحتاج إلى تناول في مقالنا القادم إن شاء الله، في موقف التوراة من الرجم كعقوبة للزناة وغيرهم. وفيما التقى الإسلام مع اليهودية في هذا التشريع وفيم اختلف؟
__________
الهوامش:
1- انظر: الناسخ والمنسوخ بين الإثبات والنفي للدكتور عبد المتعال الجبري 45-47 بتصرف شديد.
2- انظر: صحيح مسلم بشرح القاضي عياض المسمى إكمال المعلم بفوائد مسلم (5/508).
3- انظر: البيان والتحصيل لابن رشد (18/217،216). بتصرف.
4- رواه أحمد (4529) والبخاري (3635) ومسلم (1699) والبيهقي في الكبرى (17012) والصغرى (3269) والترمذي (1436) وابن حبان (4434) وأبو داود (4446) عن ابن عمر رضي الله عنهما.
5- انظر: تفسير الطبري بتحقيق شاكر الأثر (11976) (10/328،327).
6- انظر: فتح الباري لابن حجر (12/169) والإلمام بشرح عمدة الأحكام لإسماعيل الأنصاري (2/123) والبحر المحيط الثجاج في شرح صحيح الإمام مسلم بن الحجاج لابن موسى الإتيوبي الولوي (29/541) وكوثر الدراري في كشف خبايا صحيح البخاري للجكني الشنقيطي (12/32) وشرح الزرقاني على الموطأ (4/218) وعون المعبود وحاشية ابن القيم على سنن أبي داود لشرف الحق الصديقي العظيم آبادي (12/86).
7- رواه أحمد (15156) وضعف إسناده محققوه (23/349) والبيهقي في الشعب (177) والبغوي في شرح السنة (126) وابن عبد البر في جامع بيان العلم وفضله (1497) وحسن إسناده محققه (2/805) وحسن إسناده الألباني في إرواء الغليل (1589) (6/34).
8- رواه ابن أبي شيبة في مصنفه (26950).
9- ذكره ابن عبد البر في جامع بيان العلم وفضله (1499).
Essamt74@hotmail.com