ارتبطت الانتخابات السياسية في المخيال الشعبي بالأزمة السياسية الحادة والخوف لدى أغلبية الجزائريين. كان هذا هو الحال منذ استقلال الجزائر، الذي انفجرت فيه أزمة صيف 62 على خلفية انتخاب المكتب السياسي لجبهة التحرير، بعد تدخل قيادة الأركان بدعم من جيش الحدود لحسم الصراع لصالح ما عرف لاحقا بمجموعة وجدة، التي اختارت كواجهة سياسية لها، الرئيس بن بلة.
نظام بن بلة ـ بومدين الذي دشن مرحلة الانتخابات الشكلية الخالية من أي تنافس فعلي، والأقرب لمنطق التعيين المبني على الولاءات الشخصية، ما أدى عمليا إلى إبعاد كل الوجوه التاريخية المنافسة، التي لم تقبل بهذه الأوضاع المبنية على ميزان قوى عسكري صرف، فكان السجن والنفي وحتى الاغتيال مصير كل من عارض، ولم يقبل بهذا المنطق على غرار بوضياف وآيت أحمد وشعباني وكريم وغيرهم.
لم تخل الانتخابات المغلقة التي تحولت إلى عادة لدى النظام السياسي، لغاية نهاية الثمانينيات، رغم ذلك من بعض الاحتكاكات والمناوشات البسيطة في عالم الريف تحديدا، وقواه التقليدية التي تم التحكم فيها عن طريق تدوير النخب السياسية والأعيان، الذين عرفوا كيف يتفاوضون مع هذا النظام، الذي احتكر التمثيل السياسي الوطني واعتبر التشكيك في سيطرته نوعا من الشرك. في غياب شبه كلي للمواطنين، تحول مع الوقت إلى قاعدة عامة، قبل خلالها الجزائريون مواطنتهم السياسية على مضض بمقايضة مواطنتهم، مقابل السلم الاجتماعي وبعض الخدمات التي منَّ بها عليهم النظام السياسي ـ الاقتصادي الريعي.
كان لابد من انتظار مرحلة التعددية في بداية التسعينيات من القرن الماضي، بالتنافس الذي تولد عنها في جو سياسي وأمني مضطرب، ميز هذه المرحلة، لكي تتحول الانتخابات السياسية إلى لعنة حقيقية؛ فقد أدخلت هذه الانتخابات البلد في حرب أهلية حقيقية، تولدت أساسا عن عدم اتفاق النخب السياسية المتنافسة على مكانة الانتخابات، كوسيلة للتداول السلمي على السلطة. تعلق الأمر بالقوى السياسية الحاكمة، أو تلك التي تنافسها على غرار قيادة الجبهة الإسلامية للإنقاذ، المنتمية فكريا إلى المدرسة السياسية نفسها، في عدم إيمانها بالانتخابات كوسيلة تداول فعلي على السلطة. حتى وهي تستفيد منها بالوصول إلى السلطة. مضافا إلى ما حاولت أن تضفيه من قدسية دينية على موقف لم يؤمن يوما بالتداول عن طريق الانتخابات، وحتى بالانتخابات كآلية للتنافس وحل الخلافات يتعلق بالانتخابات المحلية، انتخابات مطلوب منها أن تكون لعبة إلهاء للمواطنين ونوعا من التدوير للنخب، وإكساب نوع من الشرعية الصورية للحكام، على المستويين الدولي والداخلي لا غير. انتخابات تتحكم الإدارة في تنظيمها وهي تتعامل معها كشكلية لا بد منها، تقوم بها بشكل دوري، من دون الإيمان الفعلي بها كوسيلة إنتاج نخب بديلة، أو تداول فعلي على السلطة، لم تعد تحترم في تنظيمها حتى الشكليات البسيطة.
فما هو المطلوب يا ترى من الانتخابات في زمن الحراك الشعبي الذي زلزل أركان النظام؟ السلطة حسب ما يبدو حتى اليوم لم تغير من نظرتها، فهي تريد انتخابات من النوع نفسه الذي تعودت عليه منذ الاستقلال؛ انتخابات مطلوب منها الحفاظ على النظام نفسه حتى لو تم التخلي عن بعض وجوهه، يتم تنظيمها بقوى التزوير الموجودة نفسها، على مستوى الإدارة المحلية والمركزية، ما يجعل أي تغيير في الإطار القانوني، وحتى تكوين لجنة مستقلة للانتخابات، من دون تأثير فعلي على نتائجها، التي تخصصت الإدارة في تزويرها، بعد أن تحول التزوير لديها إلى ثقافة مكرسة، تفننت في ممارسته منذ الاستقلال. سيكون من الصعب أن تتخلص منه كليا حتى بعد عملية انتقال سياسي وحضور لمراقبين دوليين، في غياب تجنيد قوي للمواطنين، كما هو متوقع ومأمول من الحراك الشعبي هذه المرة. تصر السلطة الفعلية إذن على هذه الانتخابات المبرمجة في 4 تموز/يوليو المقبل، رغم إدراكها استحالة تنظيمها لأسباب سياسية وعملية، كعدم انطلاق التحضير لها وتنظيم حملة انتخابية، وحتى غياب مرشحين جدد لها حتى الآن. استحالة عملية ستؤدي بالسلطة نفسها عن قريب، إلى الإعلان عن تأجيل هذه الانتخابات، كما يتوقع الكثير ممن يعرفون منطق تسيير هذه المرحلة السياسية التي يمر بها النظام السياسي، بعد انطلاق الحراك.
تأجيل الانتخابات الذي يجد صعوبات كبيرة في الإعلان عنه، وفي الاتفاق بين أصحاب القرار على طريقة إخراجه إلى العلن لارتباطه بانطلاق مرحلة انتقالية، يطالب فيها الحراك بإبعاد رئيس الدولة والحكومة الحالية، وتكوين لجنة مستقلة لتنظيم الانتخابات، بديلا عن إدارة الداخلية، كتمهيد لدخول مرحلة تسيير سياسي انتقالي يطالب به الحراك الشعبي. سلطة فعلية تدرك أن لعنة الانتخابات هذه التي نتكلم عنها، هي التي كانت أصلا وراء انطلاق الحراك الشعبي في 22 شباط/فبراير الماضي. بعد ترشح رئيس عاجز لها للمرة الخامسة، بكل ما حمله هذا الترشح من إحساس بالإهانة للمواطنين الجزائريين، الذين لم يصدقوا لآخر دقيقة، أنه يمكن أن يترشح وهو في هذا الوضع الصحي المتدهور.
شعور بالإهانة زاده تكريسا تلك الوجوه المرشحة القبيحة والمهرجة لهذه الانتخابات، التي كان يفترض أن تتم في 20 نيسان/إبريل الماضي، لولا هبة المواطنين التي أنقذت البلد. فهل ستكون الانتخابات الرئاسية المقبلة التي يطالب المواطنون بها، بعد مدة انتقال معقولة، بداية القطيعة مع لعنة الانتخابات هذه التي لازمت النظام السياسي الجزائري المغلق منذ الاستقلال؛ نظام فشل حتى الآن في الاستفادة من الانتخابات كوسيلة تغيير سلمي داخلي لرجاله ومؤسساته. هذا ما يطالب به المواطن الجزائري منذ خروجه في مسيراته الشعبية التي لن تتوقف قبل تحقيق المبتغى منها.
مواطن يعلن بمناسبة كل مسيراته التي دخلت شهرها الثالث، أنه سيشارك هذه المرة في الانتخابات ويراقب كل محطاتها، بما تفترضه من تطبيق للمقاييس الدولية، أصبح يتوق إلى تحقيقها في بلده، عكس ما كان يقوم به من عزوف عنها في السابق، عندما كان متيقنا من أنها انتخابات مشوهة وممسوخة لا تنتج أي تغيير، بل تزيد في تعميق الأزمة بما تنتهجه من مؤسسات ووجوه فاقدة للشرعية، تسببت في الزيادة من حدة مآسي البلد، وإعادة إنتاجها الموسع، بكل الآفات المرتبطة بها كسيطرة المال الفاسد والبلطجة وإهدار فرص التنمية.
عن صحيفة القدس العربي